وقد دريت أنّ الأصل في كلّ شيء هو وجوده ، والماهية تابعة للوجود ، فما كان له نحو وجود النار كان له ماهية النار.
وممّا ينبّه على ذلك قوله تعالى في زبر الحديد الّذي اتّخذه ذو القرنين للسد : (قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) (١) ، فأطلق عليه النار.
وكذا الماء إذا اشتدّت سخونته بمجاورة النار ، ويفعل فعلها ، فإنه ينقلب نارا ، بل ربّما كان غير المسمى نارا أشدّ تسخينا من النار ؛ لصلابة جرمه ، وكثافة مادته ، كالحديدة الحامية فإنّ الصورة الجوهرية تقبل الأشد والأزيد.
وبهذا تندفع شبهة أوردت على أن المعلول لا يساوي العلة في التأثير ، من أنّ النار قد تذيب الجواهر فتجعلها أسخن منها (٢).
وجه الاندفاع ظاهر على أنّ النار ليست علّة فاعلية ، بل هي معدّة.
وبهذا التحقيق يظهر أن الطبائع والنفوس أيضا نيرانات غير محسوسة ؛ وذلك لأنها تفعل أفاعيل النار ، كالنقل من موضع إلى موضع ، وكالطبخ ، والنضج ، والتعقيد ، وكالكلس ، والإذابة ، وكالتليين ، والتلطيف ، والإحالة ، والهضم ، والإلصاق ، والدفع ، والشهوة ، الّتي هي ضرب من الجذب ، والإمساك ، والغضب ، الذي هو ضرب من الهضم ، والدفع ، والإحساس ، الّذي هو ضرب من التغذية ، وكذا كلّ إدراك وعلم حادث ، وكالتحريك الّذي مرجعه إلى الجذب والدفع ، وغير ذلك ، كما يأتي تفاصيله في مواضعه.
__________________
(١) ـ سورة الكهف ، الآية ٩٦.
(٢) ـ أنظر : الشفاء : ٢٧٥ ، أورد الشبهة تحت عنوان : فإن قال قائل.