هو منها تمام تلك الهويات.
ومن تأمّل في إدراك الحواس وتقوّمها بإدراك الخيال ، والإدراك ضرب من الوجود ، لم يستبعد اضمحلال الوجود الأضعف في الوجود الأقوى.
وكذا من نظر في بداية وجود الإنسان ، وترقّياته في الأكوان الجوهرية ، من لدن وجوده الجمادي إلى أن يبلغ إلى مرتبة العقل النظري ، لم ينكر هذا المطلوب ؛ حيث تحقّق له في كلّ استكمال جوهري فناء وبقاء ، وخلع ولبس ، غير ما يوجد في المركّبات العنصرية من الكون والفساد الّذي منشؤه التضاد والتعاند بين الصور المتفاسدة ، بل إنك قد عرفت أن النفس في مقامها الطبيعي متحدة بالبدن اتحادا حقيقيا ، وفي مقامها الحسّي متحدة بالحواس، وكذا في سائر مقاماتها ، وقد مضى عليها برهة لم يكن لها شيء من مبادىء هذه الصفات ، أو أكثرها ، كما قال سبحانه : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (١). وسيأتي عليه زمان تنفسخ عنه هذه أو أكثرها ، وهو هو ، وينقلب إلى أهله مسرورا.
ولمّا جاز أن يكون وقتا في مقام الحيوانية بحيث لا يعرف غير الأكل والجماع ، والحس والحركة ، ولا يكون فيه شيء من آثار العقل أصلا ، إلّا قوّة بعيدة ، وقوّة الشيء ليس وجوده ، بل إمكانه ، ووقتا بحيث يستكمل ويصير عاقلا ومعقولا ، فبالحقيقة صار الكائن حيوانا كائنا ، ملكا عقليا ، لا بمجرّد المجاز والتشبيه ، أو بمجرّد صفة عارضة ، بل بحركة ذاتية وانقلاب وجودي من نشأة إلى نشأة ، فليجز مثل ذلك فيما نحن بصدده ، أي فيما فوق ذلك.
فقد ظهر أن النفس عند تحصيلها لجميع المعقولات واستحضارها لها ،
__________________
(١) ـ سورة الإنسان ، الآية ١.