ولكلّ خدمة موكولة إليه أينما وجد لزمته تلك الخدمة ، مع شعف (١) تامّ.
ألا ترى إلى الحجر إذا أخرج عن مكانه الطبيعي كيف يميل إليه بشوق تام ، وشعف كامل ، وهذا بعينه إطاعة طبيعية لنفسه ، وخدمة لها ، وهي متسببة عن عشقها إيّاها ، وابتهاجها بها ، وكذلك سائر الطبائع والقوى ، من النباتية والحيوانية ، من الغاذية ، والنامية ، والمولّدة ، والمحرّكة ، والمدركة ، إلى غير ذلك ، فإنّ كلّها مجبولة في طاعة النفس ، والانقياد لها ، كما مرّ بيان ذلك مفصّلا في مباحث النفس ، فلا نعيدها ، وما ذلك إلّا لعشقها لها ، وشوقها إلى الوصول لديها ، وما عشقتها إلّا لأنّها عشقت الخير المطلق ، فهي في الحقيقة إنّما تعشق خالقها وبارئها.
وأمّا الأعراض فعشقها ظاهر بالجدّ في ملازمة الموضوع.
فصل
وأمّا النفوس المنطقية فهي لما كانت ذات جهتين ، من جهة ذاتها جوهر عقلي ثابت بالقوة ، ومن جهة تعلّقها بالطبيعة وفعلها وتدبيرها جوهر متجدّد غير ثابت.
وهاتان الجهتان ممّا يشبه أن تكون إحداهما مقوّمة لها ، داخلة في قوامها ، والأخرى لاحقة لذاتها ، لكونها إضافة لها إلى الطبيعة ، فإذا سقطت عنها هذه الإضافات رجعت إلى منبعها الأصلي ، وحيّزها العقلي.
وإنما تخاف النفس من ذلك ، ولا تأنس إلى الخروج من هذا الحبس ؛
__________________
(١) ـ الشّعف : شدة الحبّ. (لسان العرب : ٩ / ١٧٧ ، مادة : شعف).