لأنها استوحشت مخافة أن تنقل إلى ما هو شرّ منه ، وإنما يطلب الموت الموقنون الذين تيقّنوا أنهم ملاقو ربّهم ، وإنهم إليه راجعون ، فيتمنّون الموت تشوقا إلى لقاء الله في الدار الآخرة ؛ لكونهم يتولّون الله ، ويحبّونه ، كما في قوله تعالى : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١) ، وأولئك هم النفوس الإنسانية الّتي وصلت في حياتها الدنياوية إلى الغبطة العظمى ، فأشرف أحوالها أن تكون عاشقة مشتاقة ، فشوقها يؤدي إلى الطلب السريع ، والسير الحثيث إلى الحقّ ، حتّى إذا أدّت الحركة إلى النيل بطل الطلب ، وصفت البهجة ، وحقّت ، وهو الفناء الّذي يسمى بالولاية ، وإليهم الإشارة بقولهعزوجل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (٢).
فصل
وأمّا النفوس الحيوانية ، سواء كانت من نوع الإنسان ، أو أنواع أخرى حيوانية ، طالبة لكمالات وهمية ، وخيرات خيالية ، فهي صنفان : سعيدة ، وشقيّة.
فالسعيدة نفوس بشرية ، تتصوّر الحقّ الأوّل تصوّرا مثاليا ، وتتمثل لها الوسائط العقلية بالأمثلة المأخوذة عن المبادىء الجسمانية ، والأفعال الباطنية المقرّبة إليه ، والنيّات الصالحة المزلفة لديه بنظائرها من الأفعال الصادرة من خدّام السلاطين ، وعبيد الملوك ، وتتخيل الغايات الحقيقية ، كالغايات الحسّية ، فكأنهم يعبدون حكاية الحقّ الأوّل ، ويعشقون ذلك، لا ذاته تعالى ، فلهذا صارت
__________________
(١) ـ سورة الجمعة ، الآية ٦.
(٢) ـ سورة البقرة ، الآية ١٦٥.