عباداتهم وحركاتهم أمثلة لعبادات أهل الحق ، وأشباحا لنسك العارفين.
والشقية نفوس منغمسة في عالم الطبيعة ، متنكّسة رؤوسها لانكبابها على الشهوات واللذّات الحسّية ، والتغلّبات الحيوانية ، فهي الّتي كفرت بأنعم الله ، وصرفت قواها الشهوية والغضبية في غير ما خلقت لأجله ، وضلّت ضلالا بعيدا ، وخسرت خسرانا مبينا.
وهي مع هذه الشقاوة والفاحشة غير خالية عن عشق وشوق إلى طلب الخير الأقصى، والحق الأعلى ، بحسب غريزتها وطبيعتها الفطرية الّتي فطر الناس عليها ؛ وذلك لأنها إنّما طلبت ما طلبت ، وعشقت ما عشقت من المشتهيات الدنية والحظّ الأدنى ؛ لأنها تصوّرت فيها الخيرية.
وقد دريت أن الوجود كله خير ، وأن الشرور إنّما هي بالإضافة ، فما هو شرّ بالنسبة إلى أمر ، فهو خير في نفسه ، أو بالإضافة إلى أمر آخر ، فالنفوس إنّما عشقت مستلذّاتها من جهة خيريّتها ، ولكنها لجهلها وعماها ذاهلة عن استلزام ذلك فوات الخيرات الكثيرة الّتي لا نسبة لها إلى هذه ، فرجع عشقها ـ إذن ـ إلى الخير ليس إلّا ، وبيّن أنّ الخير كله من عند الله عزوجل ، وبيده ، ومنه ، وبه ، بل إنّما سائر الخيرات رشح من خيره ، كما أن الوجودات كلّها رشح من وجوده ، فهي ـ إذن ـ ليس عشقها إلّا لله سبحانه بالحقيقة ، سواء كان بحسب الظاهر للمال والجاه ، أو الحسن والجمال ، أو غير ذلك.
من هنا قال صاحب الفتوحات : ما أحبّ أحد غير خالقه ، ولكن احتجب عنه تعالى ، بحب (١) زينب ، وسعاد ، وهند ، وليلى ، والدرهم ، والدينار ، والجاه ، وكلّ ما في العالم ، فأفنت الشعراء كلامها في الموجودات ، وهم لا يشعرون ،
__________________
(١) ـ في المخطوطة : تحت.