فإنه قال في باب التوبة من «منازل السائرين ولطائف التوبة» ثلاثة أشياء :
أولها : أن ننظر في الجناية والقضية ، فنعرف مراد الله فيها إذ خلّاك وإتيانها فإن الله تعالى إنما يخلي العبد والذنب لأحد معنيين : أن يعرف عبرته في قضائه ، وبره في مسيره ، وحلمه في إمهال راكبه ، وكرمه في قبول العذر منه ، وفضله في مغفرته ، والثاني : ليقيم على العبد حجّة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته.
واللطيفة الثانية : أن يعلم أن طلب البصير الصادق سنّته لم تبق له حسنة بحال ، لأنه يسير بين مشاهدة المنّة ويطلب عيب النفس والعمل.
واللطيفة الثالثة : أنّ مشاهدة العبد الحكم لم يدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة ، لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم.
فهذا الكلام الأخير ظاهره يبطل استحسان الحسن واستقباح القبيح ، والشرائع كلها مبناها على استحسان هذا واستقباح هذا ؛ بل مشاهدة الحكم تزيد البصير استحسانا للحسن واستقباحا للقبيح ، وكلما ازدادت معرفته بالله وأسمائه وصفاته وأمره ، قوي استحسانه واستقباحه ، فإنه يوافق في ذلك ربّه ورسله ومقتضى الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وقد كان شيخ الإسلام في ذلك موافقا للأمر ، وغضبه لله ولحدوده ومحارمه ومقاماته في ذلك شهيرة عند الخاصة والعامة ، وكلامه المتقدم بيّن في رسوخ قدمه في استقباح ما قبحه الله واستحسان ما حسّنه الله وهو كالمحكم فيه وهذا متشابه فيردّ إلى محكم كلامه ، والذي يليق به ما ذكره شيخنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي في شرحه فذكر قاعدة في الفناء والاصطلام (١) فقال : الفناء عبارة
__________________
(١) الاصطلام : استئصال.