البالغة عليهم بذلك ، واضمحلت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه ، ثم قرر تمام الحجة بقوله (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) فإن هذا يتضمن أنه المتفرد بالربوبية والملك والتصرف في خلقه ، وأنه لا ربّ غيره ، ولا إله سواه ، فكيف يعبدون معه إلها غيره. فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم ، وأنّ الأمر كله لله وأنّ كلّ شيء ما خلا الله باطل ، فالقضاء والقدر والمشيئة النافذة من أعظم أدلة التوحيد ، فجعلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على الشرك ، فكانت حجة الله هي البالغة وحجّتهم هي الداحضة ، وبالله التوفيق.
إذا عرفت هذا فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربّه بعده ، وهداه واصطفاه. وآدم أعرف بربه من أن يحتجّ بقضائه وقدره على معصيته ، بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة بسبب خطيئة أبيهم ، فذكر الخطيئة تنبيها على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذرية ، ولهذا قال له : أخرجتنا ونفسك من الجنة ، وفي لفظ : خيّبتنا. فاحتج آدم بالقدر على المصيبة وقال : إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي ، والقدر يحتجّ به في المصائب دون المعايب أي : أتلومني على مصيبة قدّرت عليّ وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة ، هذا جواب شيخنا رحمهالله.
وقد يتوجه جواب آخر وهو انّ الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضرّ في موضع ، فينفع إذا احتجّ به بعد وقوعه والتوبة منه وترك معاودته كما فعل آدم ، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع ، لأنه لا يدفع بالقدر أمرا ولا نهيا ، ولا يبطل به شريعة ، بل يخبر بالحق المحض على وجه