قلبه معنى قوله (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨)) [التكوير] مع قوله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ (٢٩)) [التكوير] وقوله (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ (٥٦)) [المدثر].
فمن الناس من يتّسع قلبه لهذين الشهودين ، ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما ، بقوة الوارد عليه وضعف المحل ، فيغيب بشهود العبودية والكسب وجهة الطاعة والمعصية عن شهود الحكم القائم بالرب تعالى من غير إنكار له ، فلا يظهر عليه إلا أثر الفعل وحكمه الشرعي ، وهذا لا يضره إذا كان الإيمان بالحكم قائما في قلبه ، ومنهم من يغيب بشهود الحكم وسبقه وأولية الرب تعالى وسبقه للأشياء عن جهة عبوديته وكسبه وطاعته ومعصيته ، فيغيب بشهود الحكم عن المحكوم به فضلا عن صفته ، فإذا لم يشهد له فعلا فكيف يشهد كونه حسنا أو قبيحا ، وهذا أيضا لا يضره إذا كان علمه بحسن الفعل وقبحه قائما في قلبه ، وإنما توارى عنه لاستيلاء شهود الحكم على قلبه ، وبالله التوفيق.
فأين هذا من احتجاج أعداء الله بمشيئته وقدره على إبطال أمره ونهيه ، وعبّاد هؤلاء الكفرة يشهدون أفعالهم كلها طاعات لموافقتها المشيئة السابقة ، ولو أغضبهم غيرهم ، وقصّر في حقوقهم لم يشهدوا فعله طاعة مع أنه وافق فيه المشيئة ، فما احتجّ بالقدر على إبطال الأمر والنهي إلا من هو من أجهل الناس وأظلمهم وأتبعهم لهواه.
وتأمّل قوله سبحانه بعد حكايته عن أعدائه واحتجاجهم بمشيئته وقدره على إبطال ما أمرهم به رسوله ، وأنه لو لا محبته ورضاه به لما شاءه منهم (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)) [الأنعام] فأخبر سبحانه أنّ الحجة له عليهم برسله وكتبه وبيان ما ينفعهم ويضرهم وتمكنهم من الإيمان بمعرفة أوامره ونواهيه ، وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول ، فثبتت حجته