كيف اعترف بأنه لا خلاص عن هذه الأسئلة إلا بتكذيب جميع الرسل من أوّلهم إلى آخرهم ، وإبطال جميع الكتب المنزلة من عند الله ، ومخالفة صريح العقل في أنّ الخالق العالم سبحانه مريد مختار ، ما شاء كان بمشيئته ، وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته ، وأنه ليس في الكون شيء حاصل بدون مشيئته البتة ، فأقرّ على نفسه أنه لا خلاص له في تلك الأسئلة إلا بالتزام طريقة أعداء الرسل والملل القائلين بأنّ الله لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام ، ولا أوجد العالم بعد عدمه ، ولا يفنيه بعد إيجاده وصدور ما صدر عنه بغير اختياره ومشيئته ، فلم يكن مختارا مريدا للعالم ، وليس عنده إلا هذا القول ، أو قول الجبرية منكري الأسباب والحكم والتعليل ، أو قول المعتزلة الذين أثبتوا حكمة لا ترجع إلى الفاعل ، وأوجبوا رعاية مصالح ، شبّهوا فيها الخالق بالمخلوق ، وجعلوا له بعقولهم شريعة ، أوجبوا عليه فيها ، وحرموا ، وحجروا عليه.
فالأقوال الثلاثة تتردد في صدره ، وتتقاذف به أمواجها تقاذف السفينة إذا لعبت بها الرياح الشديدة ، والعاقل لا يرضى لنفسه بواحد من هذه الأقوال ، لمنافاتها العقل والنقل والفطرة ، والقول الحق في هذه الأقوال كيوم الجمعة في الأيام ، أضلّ الله عنه أهل الكتابين قبل هذه الأمة ، وهداهم إليه كما قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم في الجمعة : «أضلّ الله عنها من كان قبلنا فاليوم لنا ، وغدا لليهود وبعد غد للنصارى» (١) ، ونحن هكذا نقول بحمد الله ومنّه القول الوسط الصواب لنا ، وإنكار الفاعل بالمشيئة والاختيار لأعداء الرسل ، وإنكار الحكمة والمصلحة والتعليل والأسباب للجهمية والجبرية ، وإنكار عموم القدرة والمشيئة العائدة إلى الرب سبحانه ، من محبته وكراهته وموجب حمده ومقتضى أسمائه وصفاته ومعانيها وآثارها للقدرية المجوسية ، ونحن نبرأ إلى
__________________
(١) هذا القول مأخوذ من حديثين ، الأول : رواه مسلم (٨٥٦) عن أبي هريرة وحذيفة ، والآخر : رواه البخاري (٨٧٦) ، ومسلم (٨٥٥) عن أبي هريرة.