فصل
وأما قوله (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ (٥٣)) [الحج] فهي على بابها ، وهي لام الحكمة والتعليل ، أخبر الله سبحانه أنه جعل ما ألقاه الشيطان في أمنية الرسول محنة واختبارا لعباده ، فافتتن به فريقان ، وهم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ، وعلم المؤمنون أنّ القرآن والرسول حقّ ، وأن إلقاء الشيطان باطل ، فآمنوا بذلك ، وأخبتت له قلوبهم ، فهذه غاية مطلوبة مقصودة بهذا القضاء والقدر ، والله سبحانه جعل القلوب على ثلاثة أقسام : مريضة ، وقاسية ، ومخبتة ، وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافا وإذعانا ، أو لا تكون كذلك ، فالأول : حال القلوب القاسية الحجرية التي لا تقبل ما يبث فيها ، ولا ينطبع فيها الحق ، ولا ترتسم فيها العلوم النافعة ، ولا تلين لإعطاء الأعمال الصالحة. وأما النوع الثاني فلا يخلو إما أن يكون الحق ثابتا فيه ، لا يزول عنه لقوته مع لينه ، أو أن يكون ثابتا مع ضعف وانحلال ، والثاني : هو القلب المريض ، والأول هو الصحيح المخبت ، وهو جمع الصلابة والصفاء واللين ، فيبصر الحق بصفائه ، ويشتد فيه بصلابته ، ويرحم الخلق بلينه ، كما في أثر مرويّ : «القلوب آنية الله في أرضه ، فأحبّها إلى الله أصلبها وأرقّها وأصفاها» كما قال تعالى في أصحاب هذه القلوب (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (٢٩)) [الفتح] فهذا وصف منه للمؤمنين الذين عرفوا الإيمان بصفاء قلوبهم ، واشتدوا على الكفار بصلابتها ، وتراحموا فيما بينهم بلينها ، وذلك أنّ القلب عضو من أعضاء البدن ، وهو أشرف أعضائه وملكها المطاع ، وكل عضو كاليد مثلا إما أن تكون جامدة ويابسة ، لا تلتوي ولا تبطش ، أو تبطش