كالليل والنهار ، والعلو والسفل ، والطيب والخبيث ، والخفيف والثقيل ، والحلو والمرّ ، والبرد والحرّ ، والألم واللذة ، والحياة والموت ، والداء والدواء ، فخلق هذه المتقابلات هو محل ظهور الحكمة الباهرة ، ومحل ظهور القدرة القاهرة والمشيئة النافذة والملك الكامل التام ، فتوهّم تعطيل خلق هذه المتضادات تعطيل لمقتضيات تلك الصفات وأحكامها وآثارها ، وذلك عين المحال ، فإنّ لكل صفة من الصفات العليا حكما ومقتضيات وأثرا ، هو مظهر كمالها ، وإن كانت كاملة في نفسها ، لكن ظهور آثارها وأحكامها من كمالها ، فلا يجوز تعطيله ، فإنّ صفة القادر تستدعي مقدورا ، وصفة الخالق تستدعي مخلوقا ، وصفه الوهّاب الرازق المعطي المانع الضار النافع المقدّم المؤخر المعزّ المذل العفوّ الرءوف تستدعي آثارها وأحكامها ، فلو عطّلت تلك الصفات عن المخلوق المرزوق المغفور له المرحوم المعفو عنه ، لم يظهر كمالها ، وكانت معطلة عن مقتضياتها وموجباتها.
فلو كان الخلق كلهم مطيعون عابدون حامدون ، لتعطّل أكثر كثير من الصفات العلى والأسماء الحسنى ، وكيف كان يظهر أثر صفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والانتقام والعز والقهر والعدل والحكمة التي تنزل الأشياء منازلها ، وتضعها مواضعها ، فلو كان الخلق كلهم أمة واحدة ، لفاتت الحكم والآيات والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه ، وفات كمال الملك والتصرف ، فإن الملك إذا اقتصر تصرّفه على مقدور واحد من مقدوراته ، فإما أن يكون عاجزا عن غيره ، فيتركه عجزا ، أو جاهلا بما في تصرفه في غيره من المصلحة ، فيتركه جهلا. وأما أقدر القادرين وأعلم العالمين وأحكم الحاكمين فتصرّفه في مملكته لا يقف على مقدور واحد ، لأن ذلك نقص في ملكه.
فالكمال كلّ الكمال في العطاء والمنع والخفض والرفع والثواب والعقاب