من له مسكة من عقل خلوّها من الحكم والغايات المحمودة المطلوبة لأجلها.
ولهذا استدلّ كثير من العقلاء على النبوة بنفس الشريعة ، واستغنوا بها عن طلب المعجزة ، وهذا من أحسن الاستدلال ، فإنّ دعوة الرسل من أكبر شواهد صدقهم.
وكل من له خبرة بنوع من أنواع العلوم ، إذا رأى حاذقا قد صنف فيه كتابا جليلا ، عرف أنه من أهل ذلك العلم ، بنظره في كتابه ، وهكذا كل من له عقل وفطرة سليمة وخبرة بأقوال الرسل ودعوتهم ، إذا نظر في هذه الشريعة ، قطع قطعا نظير القطع بالمحسوسات ، أنّ الذي جاء بهذه الشريعة رسول صادق ، وأن الذي شرعها أحكم الحاكمين ، ولقد شهد لها عقلاء الفلاسفة بالكمال والتمام ، وأنه لم يطرق العالم ناموس أكمل ولا أحكم.
هذه شهادة الأعداء ، وشهد لها من زعم أنه من الأولياء بأنها لم تشرع لحكمة ولا لمصلحة ، وقالوا : أي حكمة في الإلزام بهذه التكاليف الشاقة المتعبة ، وأي مصلحة للمكلف في ذلك ، وأي غرض للمكلف؟ وما هي إلا محض المشيئة المجردة من قصد غاية أو حكمة ، ولو استحيا هؤلاء من العقلاء ، لمنعهم الحياء من تسويد القلوب والأوراق بمثل ذلك ، وهل تركت الشريعة خيرا ومصلحة إلا جاءت به ، وأمرت به وندبت إليه ، وهل تركت شرا ومفسدة إلا نهت عنه ، وهل تركت لمفرح أفراحا ، أو لمتعنّت نعتا ، أو لسائل مطلبا. فمن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون.
وعند نفاة الحكم أنه يجوز عليه ضد ذلك الحكم من كل وجه ، وأنه لا فرق بينه وبين ضده في نفس الأمر إلا لمجرد التحكم والمشيئة ، فلو اجتمعت حكمة جميع الحكماء من أول الدهر إلى آخره ، ثم قيست إلى