حكمة هذه الشريعة الكاملة الحكيمة الفاضلة ، لكانت كقطرة من بحر ، وإنما نعني بذلك الشريعة التي أنزلها الله على رسوله ، وشرعها للأمة ، ودعاهم إليها ، لا الشريعة المبدلة ولا المؤولة ولا ما غلط فيه الغالطون وتأوّله المتأولون ، فإن هذين النوعين قد يشتملان على فساد وشر ، بل الشر والفساد الواقع بين الأمة من هاتين الشريعتين اللتين نسبتا إلى الشريعة المنزلة من عند الله عمدا أو خطأ ، وإلا فالشريعة على وجهها خير محض ومصلحة من كل وجه ورحمة وحكمة ولطف بالمكلفين ، وقيام مصالحهم بها فوق قيام مصالح أبدانهم بالطعام والشراب ، فهي مكملة للفطر والعقول ، مرشدة إلى ما يحبه الله ويرضاه ، ناهية عما يبغضه ويسخطه ، مستعملة لكل قوة وعضو حركة في كماله الذي لا كمال له سواه ، آمرة بمكارم الأخلاق ومعاليها ، ناهية عن دنيئها وسفسافها.
واختصار ذلك أنه شرع استعمال كل قوة وكل عضو وكل حركة في كمالها ، ولا سبيل إلى معرفة كمالها على الحقيقة إلا بالوحي ، فكانت الشرائع ضرورية في مصالح الخلق ، وضرورتها له فوق كل ضرورة تقدر ، فهي أسباب موصلة إلى سعادة الدارين ، ورأس الأسباب الموصلة إلى حفظ صحة البدن وقوته واستفراغ أخلاطه ، ومن لم يتصوّر الشريعة على هذه الصورة ، فهم من أبعد الناس عنها ، وقد جعل الحكيم العليم لكل قوة من القوى ولكلّ حاسة من الحواس ، ولكل عضو من الأعضاء ، كمالا حسيا وكمالا معنويا ، وفقد كماله المعنوي شرّ من فقد كماله الحسّي ، فكماله المعنوي بمنزلة الروح ، والحسي بمنزلة الجسم ، فأعطاه كماله الحسي خلقا وقدرا ، وأعطاه كماله المعنوي شرعا وأمرا ، فبلغ بذلك غاية السعادة والانتفاع بنفسه ، فلم يدع للإحسان إليه والاعتناء بمصالحه وإرشاده إليها وإعانته على تحصيلها أفراحا يفرحه ، ولا شفاء يطلبه ، بل أعطاه من ذلك ما لم يصل إليه أفراحه ولا تدرك معرفته.