مراداتهم ، ولما كان زمن التألم والعذاب ، فصبره طويل ، فأنفاسه ساعات ، وساعاته أيام ، وأيامه شهور وأعوام بلى سبحانه الممتحنين فيه بأن ذلك الابتلاء آجلا ، ثم ينقطع ، وضرب لأهله أجلا للقائه ، يسلّيهم به ، ويشكر نفوسهم ، ويهون عليهم أثقاله ، فقال : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥)) [العنكبوت].
فإذا تصور العبد أجل ذلك البلاء وانقطاعه ، وأجل لقاء المبتلي سبحانه وإثباته ، هان عليه ما هو فيه ، وخفّ عليه حمله ، ثم لما كان ذلك لا يحصل إلا بمجاهدة للنفس وللشيطان ولبني جنسه ، وكان العامل إذا علم أن ثمرة عمله وتعبه يعود عليه وحده ، لا يشركه فيه غيره ، كان أتم اجتهادا وأوفر سعيا ، فقال تعالى : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦)) [العنكبوت].
وأيضا فلا يتوهم متوهّم أنّ منفعة هذه المجاهدة والصبر والاحتمال يعود على الله سبحانه ، فإنه غنيّ عن العالمين ، لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم ، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا منه عليهم ، بل أمرهم بما يعود نفعه ومصلحته عليهم ، في معاشهم ومعادهم ، ونهاهم عما يعود مضرّته وعتيه عليهم ، في معاشهم ومعادهم ، فكانت ثمرة هذه الابتلاء والامتحان مختصة بهم ، واقتضت حكمته أن نصب ذلك سببا مفضيا إلى تميز الخبيث من الطيب ، والشقي من الغويّ ، ومن يصلح له ممن لا يصلح ، قال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (١٧٩)) [آل عمران].
فابتلاهم سبحانه بإرسال الرسل إليهم بأوامره ونواهيه واختياره ، فامتاز برسله طيبهم من خبيثهم وجيدهم من رديئهم ، فوقع الثواب والعقاب على معلوم ، أظهره ذلك الابتلاء والامتحان.