لا بد أن يبغي بعضها على بعض ، فيخرج عن حدّ الاعتدال ، فيحصل الألم. ومن جهة بني جنسه ، فإنه مدنيّ بالطبع ، لا يمكنه أن يعيش وحده ، بل لا يعيش إلا معهم ، وله ولهم لذاذات ومطالب متضادة ومتعارضة ، لا يمكن الجمع بينها ، بل إذا حصل منها شيء ، فات منها أشياء ، فهو يريد منهم أن يوافقوه على مطالبه وإرادته ، وهم يريدون منه ذلك ، فإن وافقهم حصل له من الألم والمشقة بحسب ما فاته من إرادته ، وإن لم يوافقهم ، آذوه وعذبوه ، وسعوا في تعطيل مراداته ، كما لم يوافقهم على مراداتهم ، فيحصل له من الألم والتعذيب بحسب ذلك ، فهو في ألم ومشقة وعناء ، وافقهم ، أو خالفهم ، ولا سيما إذا كانت موافقتهم على أمور ، يعلم أنها عقائد باطلة وإرادات فاسدة وأعمال تضره في عواقبها ، ففي موافقتهم أعظم الألم ، وفي مخالفتهم حصول الألم ، فالعقل والدين والمروءة والعلم تأمره باحتمال أخفّ الألمين ، تخلصا من أشدهما ، وبإيثار المنقطع منهما ، لينجو من الدائم المستمر.
فمن كان ظهيرا للمجرمين ، من الظّلمة على ظلمهم ، ومن أهل الأهواء والبدع على أهوائهم وبدعهم ، ومن أهل الفجور والشهوات على فجورهم وشهواتهم ، ليتخلّص بمظاهرتهم من ألم أذاهم ، أصابه من ألم الموافقة لهم عاجلا وآجلا أضعاف أضعاف ما فرّ منه ، وسنة الله في خلقه أن يعذبهم بإنذار من إيمانهم وظاهرهم. وإن صبر على ألم مخالفتهم ومجانبتهم ، أعقبه ذلك لذة عاجلة وآجلة ، تزيد على لذة الموافقة بأضعاف مضاعفة. وسنة الله في خلقه أن يرفعه عليهم ، ويذلّهم له ، بحسب صبره وتقواه وتوكله وإخلاصه. وإذا كان لا بدّ (١) من الألم والعذاب ، فذلك في الله وفي مرضاته ، ومتابعة رسله أولى وأنفع منه في الناس ورضاهم وتحصيل
__________________
(١) سقطت من المطبوع.