فاعلم أن هاهنا أمرين : نفسا متحركة بالإرادة والاختيار ، وطبيعة متحركة بغير الاختيار والإرادة ، وأن الشر منشؤه من هذين المتحركين وعن هاتين الحركتين ، وخلقت هذه النفس وهذه الطبيعة على هذا الوجه ، فهذه تتحرك لكمالها ، وهذه تتحرك لكمالها ، وينشأ عن الحركتين خير وشر ، كما ينشأ عن حركة الأفلاك والشمس والقمر وحركة الرياح والماء والنار خير وشر.
فالخيرات الناشئة عن هذه الحركات مقصودة بالقصد الأول ، إمّا لذاتها وإما لكونها وسيلة إلى خيرات أتمّ منها ، والشرور الناشئة عنها غير مقصودة بالذات ، وإن قصدت قصد الوسائل واللوازم التي لا بدّ منها ، فما جبلت عليه النفس من الحركة ، هو من لوازم ذاتها ، فلا تكون النفس البشرية نفسا إلا بهذا اللازم ، فإذا قيل : لم خلقت متحركة على الدوام؟ فهو بمنزلة أن يقال : لم كانت النفس نفسا ، ولم كانت النار نارا ، والريح ريحا؟ فلو لم يخلق هذا ، ما كانت نفسا ، ولو لم تخلق الطبيعة هكذا ، ما كانت طبيعة ، ولو لم يخلق الإنسان على هذه الصفة والخلقة ما كان إنسانا.
فإن قيل : فلم خلقت النفس على هذه الصفة؟.
قيل : من كمال الوجود خلقها على هذه الصفة كما تقدم ، وكذلك كمال فاطرها ومبدعها اقتضى خلقها على هذه الصفة ، لما في ذلك من الحكم التي لا يحصيها إلا مبدعها سبحانه ، وإن كان في إيجاد هذه النفس شرّ ، فهو شرّ جزئي بالنسبة إلى الخير الكلي الذي هو سبب إيجادها ، فوجودها خير من أن لا توجد ، فلو لم يخلق مثل هذه النفس ، لكان في الوجود نقص وفوات حكم ومصالح عظيمة موقوفة على خلق مثل هذه النفس.
ولهذا لما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان وقالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ