فهذه مسألة تكلم الناس فيها قديما وحديثا ، وتباينت طرقهم في الجواب عنها ، فالجاحدون للفاعل المختار الذي يفعل بمشيئته وقدرته ، يحيلون ذلك على الطبيعة المجردة ، وأن ذلك من لوازمها ومقتضياتها ، ليس بفعل فاعل ولا قدرة قادر ولا إرادة مريد ، ومنكر والحكمة والتعليل يردون ذلك ، إلى محض المشيئة وصرف الإرادة ، تخصص مثلا على مثل ، بلا موجب ولا غاية ولا حكمة مطلوبة ولا سبب أصلا ، وظنوا أنهم بذلك يتخلصون من السؤال ، ويسدون على نفوسهم باب المطالبة ، وإنما سدّوا على نفوسهم باب معرفة الربّ وكماله وكمال أسمائه وأوصافه وأفعاله ، فعطّلوا حكمته وحقيقة إلهيته وحمده ، وكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار. وأما من أثبت حكمة وتعليلا ، لا يعود إلى الخالق ، بل إلى المخلوق ، سلكوا طريقة التعويض على تلك الآلام في حق من يبعث للثواب والعقاب ، وقالوا : قد يكون في ذلك إثابة لإثابتهم بصبرهم وتألمهم ، وإثابة لهم وتعويضا في القيامة بما نالهم من تلك الآلام ، فلما أورد عليهم إيلام الحيوانات التي لا تثاب ولا تعاقب (١).
وأما المثبتون لحقائق أسماء الرب وصفاته وحكمته التي هي وصفه ، ولأجلها تسمّى بالحكيم ، وعنها صدر خلقه وأمره ، فهم أعلم الفرق بهذا الشأن ، ومسلكهم فيه أصح المسالك وأسلم من التناقض والاضطراب ، فإنهم جمعوا بين إثبات القدرة والمشيئة العامة ، والحكمة الشاملة التي هي غاية الفعل ، وربطوا ذلك بالأسماء والصفات ، فتصادق عندهم السّمع والعقل والشرع والفطرة ، وعلموا أن ذلك مقتضى الحكمة البالغة ، وأنه من لوازمها ، وأنّ لازم الحقّ حقّ ، ولازم العدل عدل ، ولوازم الحكمة من الحكمة.
__________________
(١) بياض بالأصل.