قاطبة ، على أن النعيم لا يدرك بالنعيم ، وأن الراحة لا تنال بالراحة ، وأنّ من آثر اللذات فاتته اللذات.
فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النعم ، إذ هي أسباب النعم ، وما تنال الحيوانات غير المكلفة منها فمغمور جدا بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها ، كما ينالها من حرّ الصيف وبرد الشتاء وحبس المطر والثلج وألم الحمل والولادة والسعي في طلب أقواتها وغير ذلك ، ولكن لذّاتها أضعاف أضعاف آلامها ، وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام ، فسنّة الله في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمال علمه وحكمته وعزته ، ولو اجتمعت عقول العقلاء كلهم على أن يقترحوا أحسن منها ، لعجزوا عن ذلك ، وقيل لكل منهم : أرجع بصر العقل ، فهل ترى من خلل : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)) [الملك].
فتبارك الذي من كمال حكمته وقدرته أن أخرج الأضداد من أضدادها والأشياء من خلافها ، فأخرج الحي من الميت والميت من الحي والرطب من اليابس واليابس من الرطب ، فكذلك أنشأ اللذات من الآلام والآلام من اللذات ، فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها ، وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها ، وبعد فاللذة والسرور والخير والنعم والعافية والمصلحة والرحمة ، في هذه الدار المملوءة بالمحن والبلاء ، أكثر من أضدادها بأضعاف مضاعفة ، فأين آلام الحيوان من لذته ، وأين سقمه من صحته ، وأين جوعه وعطشه من شبعه وريه ، وتعبه من راحته؟ قال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦)) [الشرح] ولن يغلب عسر يسرين ، وهذا لأن الرحمة غلبت الغضب ، والعفو سبق العقوبة ، والنعمة تقدمت المحنة. والخير في الصفات والأفعال. والشر في المفعولات لا في الأفعال.
فأوصافه كلها كمال ، وأفعاله كلها خيرات ، فإن ألم الحيوان لم يعدمه