لكنها حياة لا تنفع ، فإذا قدر دواء كريه صعب التناول ، لا سبيل إلى الصحة إلا بتكرير تناوله مرارا كثيرة العدد جدا ، يزيل ذلك المرض العارض ، فيظهر أثر الفطرة الأولى ، فلا يحتاج بعده إلى الدواء ، هذا سر المسألة.
ومن يذهب إلى هذا التقدير الثاني ، فإنه يقول : العقل لا يدل على امتناع ذلك ، إذ ليس فيه ما يحيله. ونقول : بل قد دلّ العقل والنقل والفطرة على أن الرب تعالى حكيم رحيم ، والحكمة والرحمة تأبى بقاء هذه النفوس في العذاب سرمدا أبد الآباد ، بحيث يدوم عذابها بدوام الله ، فهذا ليس من الحكمة والرحمة. قالوا :
وقد دلت الدلائل الكثيرة ، من النصوص والاعتبار ، على أنّ ما شرعه الله في هذه الدار ، وقدّره من العذاب والعقوبات ، فإنما هو لتهذيب النفوس وتصفيتها من الشر الذي فيها ، ولحصول مصلحة الزجر والاتعاظ ، وفطما للنفوس عن المعاودة ، وغير ذلك من الحكم التي إذا حصلت ، خلا التعذيب عن الحكمة والمصلحة ، فيبطل ، فإنه تعذيب عليم حكيم رحيم ، لا يعذب سدى ، ولا لنفع يعود إليه بالتعذيب ، بل كلا الأمرين محال. وإذا لا يقع التعذيب إلا المصلحة المعذب أو مصلحة غيره ، ومعلوم أنه لا مصلحة له ولا لغيره في بقائه في العذاب سرمدا أبد الآباد ، قالوا : فما دل عليه القرآن والسنة أنّ جنس الآلام لمصلحة بني آدم قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ (١٢٠)) [التوبة] وقوله : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)) [آل عمران].
فأخبر أنّ ألم القتل والجراح في سبيلة تمحيص ، أي : تطهير وتصفية للمؤمنين ، وبشّر الصابرين ، على ألم الجوع والخوف والفقر وفقد الأحباب وغيرهم ، بصلاته عليهم ورحمته وهدايته.