الباب ، كعذابهم في الدنيا بالمصائب والحدود ، وكذلك حبسهم بين الجنة والنار حتى يهذّبوا وينقّوا ، وقد علم بالنصوص الصحيحة الصريحة أن عذابهم في النار متفاوت قدرا ووقتا ، بحسب ذنوبهم ، وأنهم لا يخرجون منها جملة واحدة ، بل شيئا بعد شيء ، حتى يبقى رجل هو آخرهم خروجا. وكذلك عذاب الكفار فيها متفاوت تفاوتا عظيما ، فالمنافقون في دركها الأسفل ، وأبو طالب أخفّ أهلها عذابا ، في ضحضاح من نار ، يغلي منه دماغه. وآل فرعون في أشدّ العذاب. قالوا : فإذا كان العذاب في الدار التي فيها رحمة واحدة من مائة رحمة ، هو رحمة بأهله ومصلحة لهم ولطف بهم ، فكيف في الدار التي يظهر فيها مائة رحمة ، كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض ، وقد قال تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١)) [السجدة].
فأخبر أنه يعذّبهم رحمة بهم ، ليردهم العذاب إليه ، كما يعذب الأب الشفيق ولده ، إذا فرّ منه إلى عدوه ، ليرجع إلى برّه وكرامته ، وقال الله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ (١٤٧)) [النساء].
وأنت تجد تحت هذه الكلمات أنّ تعذيبه لكم لا يزيد في ملكه ، ولا ينتفع به ، ولا هو سدى خال من حكمة ومصلحة ، وأنكم إذا بدلتم الشكر والإيمان بالكفر ، كان عذابكم منكم ، وكان كفركم هو الذي عذّبتم به ، وإلا فأي شيء يلحقه من عذابكم ، وأي نفع يصل إليه منه؟ قالوا : وحينئذ فالحكمة تقتضي أن النفوس الشريرة لا بدّ لها من عذاب ، يهذبها بحسب وقوعها ، كما دل على ذلك السمع والعقل ، وذلك يوجب الانتهاء لا الدوام. قالوا : والله تعالى لم يخلق الإنسان عبثا ، وإنما خلقه ليرحمه ، لا ليعذبه ، وإنما اكتسب موجب العذاب بعد خلقه له ، فرحمته له سبقت غضبه ، وموجب الرحمة فيه سابق على موجب الغضب ، وغالب له ، وتعذيبه ليس