وأمهلهم ، ولم يعاجلهم ، بل وسعتهم رحمته ، فرحمته غلبت غضبه ، ولو لا ذلك لخرب العالم ، وسقطت السموات على الأرض ، وخرت الجبال. وإذا كانت الرحمة غالبة للغضب سابقة عليه ، امتنع أن يكون موجب الغضب دائما بدوامه غالبا لرحمته.
قالوا : والتعذيب إما أن يكون عبثا ، أو لمصلحة وحكمة ، وكونه عبثا مما ينزّه أحكم الحاكمين عنه ، ونسبته إليه نسبة لما هو من أعظم النقائص إليه ، وإن كان لمصلحة ، فالمصلحة هي المنفعة ولوازمها وملزوماتها ، وهي إما أن تعود على الرب تعالى ، وهو يتعالى عن ذلك ويتقدس عنه ، وإما أن تعود إلى المخلوق ، إما نفس المعذب وإما غيره أو هما ؛ والأول ممتنع ، ولا مصلحة له في دوام العقوبة بلا نهاية ، وأما مصلحة غيره ، فإن كانت هي الاتّعاظ والانزجار ، فقد حصلت ، وإن كانت تكميل لذته وبهجته وسروره بأن يرى عدوه في تلك الحال ، وهو في غاية النعيم ، فهذا لو كان أقسى الخلق لرقّ لعدوه من طول عذابه ودوام ما يقاسيه ، فلم يبق إلا كسر تلك النفوس الجبارة العتيدة ومداواتها ، كيما تصل إلى مادة أدوائها وأمراضها ، فتحسمها ، وتلك المادة شر طارئ على خير ، خلقت عليه في ابتداء فطرتها.
قالوا : والأقسام الممكنة في الخلق خمسة ، لا مزيد عليها : خير محض ، ومقابله ، وخير راجح ، ومقابله ، وخير وشر متساويان. والحكمة تقتضي إيجاد قسمين منها : وهما الخير الخالص والراجح ، وأما الشرّ الخالص أو الراجح فإنّ الحكمة لا تقتضي وجوده ، بل تأبى ذلك ، فإنّ كلّ ما خلقه الله سبحانه ، فإنما خلقه لحكمة ، وجودها أولى من عدمها ، وخلق الدواب الشريرة والأفعال التي هي شر ، لما يترتب على خلقها من الخير المحبوب ، فلم يخلق لمجرد الشر الذي لا يستلزم خيرا بوجه ما ، هذا غاية المحال ،