ومعلوم أنّ ترك الإنسان كالبهائم مهملا معطلا مضاد للحكمة ، فإنه خلق لغاية كماله ، وكماله أن يكون عارفا بربه محبا له قائما بعبوديته ، قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذاريات] وقال : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)) [الطلاق] وقال : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)) [المائدة].
فهذه المعرفة وهذه العبودية هما غاية الخلق والأمر ، وهما أعظم كمال الإنسان ، والله تعالى من عنايته به ورحمته له عرّضه لهذا الكمال ، وهيّأ له أسبابه الظاهرة والباطنة ، ومكّنه منها.
ومدار التكليف على الإسلام والإيمان والإحسان ، وهي ترجع إلى شكر النعم كلها دقيقها وجليلها منه ، وتعظيمه وإجلاله ومعاملته بما يليق أن يعامل به ، فتذكر آلاؤه وتشكر ، فلا يكفر ، ويطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، هذا مع تضمن التكليف لإيصاف العبد بكل خلق جميل ، وإثباته بكل فعل جميل ، وقول سديد ، واجتنابه لكل خلق سيّئ ، وترك كل فعل قبيح وقول زور ، فتكليفه متضمن لمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال وصدق القول والإحسان إلى الخليقة ، وتكميل نفسه بأنواع الكمالات ، وهجر أضداد ذلك ، والتنزه عنها ، مع تعريضه بذلك التكليف للثواب الجزيل الدائم ، ومجاورة ربه في دار البقاء ، فأيّ الأمرين أليق بالحكمة ، هذا أو إرساله هملا كالخيل والبغال والحمير ، يأكل ويشرب وينكح كالبهائم ، أيقتضي كماله المقدس ذلك ، فتعالى الله الملك الحقّ لا إله إلا هو ربّ العرش الكريم.
وكيف يليق بذلك الكمال طيّ بساط الأمر والنهي والثواب والعقاب ، وترك إرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع وتقرير الأحكام! وهل عرف الله من جوّز عليه خلاف ذلك ، وهل ذلك إلا من سوء الظن به ، قال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ (٩١)) [الأنعام] فحسن