الوجه التاسع والثلاثون : قوله في مناظرة الأشعري للجبائي في الإخوة الثلاثة ، الذين مات أحدهم صغيرا ، وبلغ الآخر كافرا ، والثالث مسلما : إنها مناظرة كافية في إبطال الحكمة والتعليل ورعاية الأصلح.
فلعمر الله! إنها مبطلة لطريقة أهل البدع من المعتزلة والقدرية الذين يوجبون على ربّهم مراعاة الأصلح لكل عبد ، وهو الأصلح عندهم ، فيشرعون له شريعة بعقولهم ، ويحجرون عليه ويحرمون عليه أن يخرج عنها ، ويوجبون عليه القيام بها ، وكذلك كانوا من أحمق الناس وأعظمهم تشبيها للخالق بالمخلوق في أفعاله ، وأعظمهم تعطيلا عن صفات كماله ، فنزهوه عن صفات الكمال ، وشبهوه بخلقه في الأفعال ، وأدخلوه تحت الشريعة الموضوعة بآراء الرجال ، وسمّوا ذلك عدلا وتوحيدا بالزور والبهتان ، وتلك تسمية ما أنزل الله بها من سلطان. فالعدل قيامه بالقسط في أفعاله والتوحيد وإثبات صفات كماله (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ (١٩)) [آل عمران] فهذا العدل والتوحيد الذي جاء به المرسلون ، وذلك التوحيد والعدل الذي جاء به المعطلون.
والمقصود : أن هذه المناظرة وإن أبطلت قول هؤلاء ، وزلزلت قواعدهم ، فإنها لا تبطل حكمة الله التي اختص بها دون خلقه ، وطوى بساط الإحاطة بها عنهم ، ولم يطلعهم منها إلا على ما نسبته إلى ما خفي عنهم كقطرة من بحار الدنيا ، فكم لله سبحانه من حكمة في ذلك الذي أخرمه صغيرا ، وحكمة في الذي مدّ له في العمر حتى بلغ ، وأسلم ، وحكمة في الذي أبقاه حتى بلغ وكفر ، ولو كان كلّ من علم أنه إذا بلغ ، يكفر يخترمه صغيرا ، لتعطّل الجهاد والعبودية التي يحبها الله ويرضاها ، ولم يكن هناك معارض ، وكان الناس أمّة واحدة ، ولم تظهر آياته وعجائبه في الأمم ، ووقائعه وأيامه في أعدائه ،