فصل
وما ينبغي أن يعلم أنه إذا قيل : إنه ولد على الفطرة ، أو على الإسلام ، أو على هذه الملة ، أو خلق حنيفا ، فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده ، فإن الله يقول : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً (٧٨)) [النحل] ولكن فطرته موجبة مقتضية لدين الإسلام لقروبه (١) ومحبته ، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته ، وإخلاص الدين له ، وموجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئا بعد شيء ، بحسب كمال الفطرة ، إذا سلمت من المعارض ، وليس المراد أيضا مجرد قبول الفطرة لذلك ، فإن هذا القبول تغير بتهويد الأبوين وتنصيرهما ، بحيث يخرجان الفطرة عن قبولها ، وإن سعيا بين بنيهما ودعائهما في امتناع حصول المقبول. وأيضا فإنّ هذا القبول ليس هو الإسلام ، وليس هو هذه الملة ، وليس هو الحنيفية ، وأيضا فإنه شبّه تغيير الفطرة بجدع البهيمة الجمعاء ، ومعلوم أنهم لم يغيروا قبوله ، ولو تغير القبول وزال ، لم تقم عليه الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، بل المراد أن كل مولود فإنه يولد على محبته لفاطره ، وإقراره له بربوبيته ، وادعائه له بالعبودية ، فلو خلّي ، وعدم المعارض ، لم يعدل عن ذلك إلى غيره ، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة ، فيشتهي اللبن الذي يناسبه ويغذيه ، وهذا من قوله تعالى : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)) [طه] وقوله (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣)) [الأعلى] فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديا إلى
__________________
(١) هكذا وردت.