أنصاري آخر. ورفع اليهودي الأمر إلى النبي فجاء قوم طعمة يبرئونه ويطلبون الجدال عنه فأنزل الله الآيات. ومنها أن رجلا استودع طعمة مشربة فيها درع فلما عاد لم يجد الدرع ورمى طعمة بها رجلا من اليهود وجاء قوم طعمة فكلموا النبي في براءة صاحبهم وكادوا أن يقنعوا النبي بأيمانهم وتزويقهم الكلام وتنويههم بإسلامهم حتى كاد يحكم بقطع يد اليهودي ثم عصمه الله ولم تلبث الحقيقة أن ظهرت ببراءة اليهودي وخيانة طعمة وتضليل قومه وأنزل الله الآيات في ذلك.
والروايات متسقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة. وإن كان ينبغي القول إن الرواية التي يرويها الترمذي هي التي ينبغي أن تكون الأقوى احتمالا. وفي الروايات صور عن المجتمع الإسلامي في العهد النبوي المدني ، وقد تضمنت الآيات إشارات إليها.
وواضح أن الآيات لم ترد لحكاية الحادث وإنما اتخذت حكمة التنزيل وسيلة مناسبة للتأديب والتعليم والتحذير والعظة والإنذار وإيقاظ الضمير وبعث الشعور بخشية الله ومراقبته وتقواه في القلوب. وهو الأسلوب القرآني المتميز على ما نبهنا عليه مرارا عديدة. وقد تجلّت فيها صورة رائعة من العصمة النبوية في إعلان ما أوحي إليه من عتاب. وانطوت على تلقينات جليلة ومبادئ قضائية وأخلاقية سامية مستمرة المدى من ذلك :
(١) إن على القاضي أن يجعل الحق والصدق هدفه في جميع مواقفه وأن يدقق فيما يعرض عليه فلا يأخذ بظواهر الأمور ولا ينخدع بتزويق الخصوم وعليه أن يحذر تلبيسهم ولا ينساق بأي اعتبار غير اعتبار الحق والعدل والحقيقة. ولا يتسرع في تصديق فريق وتبرئته والدفاع عنه. وأن يرجع عن الخطأ إذا ما ظهر له.
(٢) إن على المسلم أن يذكر دائما أن الله تعالى مطلع على حقائق الأمور ولا يخفى عليه خافية. وأنه لا يجديه أن يلبس على الحق والحقيقة ويخدع الناس عنهما فإنه إنما يزداد بذلك إثما عند الله. وعليه أن يذكر أن له بين يدي الله موقفا لا يستطيع أحد أن يجادل عنه فيه.