وخشعوا وسجدوا وبكوا دون مبالاة بما كان من تثريب المشركين لهم على ما ورد في آيات من سور الأنعام والأعراف والإسراء والقصص والعنكبوت والأحقاف وشرحناه في سياق تفسيرها بحيث يقال إنه لم يبق كتابي في مكة إلا انضوى للإسلام وكان فيهم أولو علم وثقافة فكان ذلك شاهدا عيانا داحضا لكل موقف كتابي مناوىء للقرآن والرسالة المحمدية بعد العهد المكي إلى آخر الزمان وردا ساحقا صاعقا لأنه كان في وقت قلة الإسلام وضعفه. وكان هذا من مؤيدات مدنية السورة على ما ذكرناه في تعريفها.
ولقد اختلف الأمر في العهد المدني والقرآن المدني. حيث كان من اليهود في يثرب والحجاز ومن النصارى في مشارق الشام وما بعدها كتل كبيرة لها مصالح أعمتها عن رؤية الحق والنور اللذين رآهما أهل الكتاب في العهد المكي فوقف معظمهم مواقف المناوأة مما مرّ شرحه في سور البقرة وآل عمران والأنفال وكان لرجال دينهم أثر كبير في ذلك عبرت عنه آية سورة التوبة (* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [٣٤]. فكانت حملات القرآن المدني شديدة قاصمة فاضحة ضدهم ومن جملتها آيات هذه السورة.
ويتبادر لنا أن الآيات نزلت بمناسبة مشهد جدلي قام بين النبي صلىاللهعليهوسلم وبين فريق منهم أو تعقيبا عليه. ولعل بعض المشركين كانوا طرفا في المشهد. أو لعلّ ذكرهم جاء استطراديا ليكون الكلام جامعا للكافرين بالرسالة المحمدية ولا سيما إن المشركين العرب كانوا يقولون بأنه لو جاء نذير أو لو نزل لهم كتاب بلغتهم لكانوا أهدى من أهل الكتاب على ما حكته عنهم آية سورة فاطر [٤٢] وآية الأنعام [١٥٧] فاقتضت حكمة التنزيل شمولهم بالنعي لأنهم شذوا وكفروا بما كانوا يتمنون مجيئه من عند الله من نذير وكتاب.
ولا يمنع ما نقول أن يكون بعض النصارى الذين جحدوا رسالة النبي في العهد المدني ممن شهد المشهد وأن تكون عنتهم فيما عنته أيضا والله تعالى أعلم.