الفعل داخلا بذلك في عداد الأفعال الاختياريّة. ولا يعتبر في العلم الذي عليه مدار الاختياريّة الإصابة ، بل يكفي مطلق الاعتقاد وإن أخطأ ، إمّا في الكبرى أو الصغرى أو فيهما.
ومن ذلك المقام ؛ فإنّه إذا قطع بأنّ هذا خمر ـ واعتقد بأنّ شرب الخمر صلاح ملائم للنفس ـ تحرّك نحو شرب ما قطع بخمريّته ، وكانت حركته تلك حركة صادرة عن مبدأ الإرادة والاختيار ، وكان فعله ذلك اختياريّا وإن لم يكن خمرا واقعا. نعم ، هو خطأ ، والخطأ من أقسام الفعل الاختياري القسيم للاضطراري ، فقد اشتبه الخطأ بالاضطرار.
وأمّا التفصيل بين اعتقاد حرمة واجب أو وجوب حرام وبين غيرهما ، فيحدث الحكم على طبق ما اعتقد في الثاني دون الأوّل ، أو يفصّل في الأوّل أيضا بأن يوازن بين الحكمين ويحكم بفعليّة أقواهما مناطا ومع التساوي يحكم بالإباحة ، فذلك ليس تفصيلا في المقام ، وإنّما هو إطلاق للقول بتحريم الفعل المتجرّي به ؛ فإنّ لازم ذلك الإطلاق هو تلك الموازنة والحكم بفعليّة أقواهما مناطا ـ إن كان ـ وإلّا فالإباحة كما هو الضابط الساري في كلّ مقام.
فإذا فرضنا أنّ في قتل ابن المولى مقدار من المفسدة ، وفرضنا أيضا أنّ في قتل من قطع بأنّه عدوّ المولى مقدار من المصلحة فاجتمع العنوانان في واحد ، أثّر من المناطين ما هو الأقوى منهما ، ومع التساوي فالإباحة. ثمّ إن كانت القوّة في جانب ما اعتقده كان هو المؤثّر ـ إن بلغت القوّة حدّا تقتضي الإلزام أولا ـ وإن كانت في جانب الواقع كان المكلّف معذورا في تركه ، فلا الواقع يصير فعليّا ولا ما اعتقده ، إلّا عند من يرى تأثير العنوان الملتفت إليه ، وإن كان مغلوبا في مناطه. وعند هذا الشخص كان التفصيل باطلا ، ويتعيّن القول بحرمة التجرّي مطلقا.
المبحث الثاني : في أنّ المتجرّي هل يستحقّ العقاب على قصده وتجرّيه ، وإن لم يكن قصده ولا فعله حراما شرعيّا ، أم لا؟ ولو تمّ الاستحقاق هنا جاء مثله في المعصية الحقيقيّة ، فكان استحقاق العقاب هناك بجهتين : من جهة القصد ومن جهة الفعل ، إلّا أن يلتزم بأن لا عقاب على الفعل وأنّ العقاب في المعصية الحقيقيّة أيضا على التجرّي.
ويمكن الاستدلال على الاستحقاق بالأدلّة الأربعة :
فمن الكتاب قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(١).
__________________
(١) البقرة (٢) : ٢٨٤.