الأمر الرابع : الظاهر أنّ الوجه في توصيف الأحكام بالوضعيّة هو دخلها في موضوعات الأحكام التكليفيّة كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة للمأمور به ، بل وكذا الشرطيّة للتكليف على ما سيجيء. وكذا الحجّيّة والولاية فإنّها معتبرة في موضوع من تجب متابعته ، وتنفذ تصرّفاته.
إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أنّ الأحكام الوضعيّة كلّها منتزعة عن التكليف ، وهو الإرادة القائمة بنفس المولى لا يتصوّر للجعل فيها وفي التكليف معنى. فالكلّ يشترك في عدم المجعوليّة ، وتمتاز الأحكام التكليفيّة بأنّها أمور واقعيّة وإرادات نفس أمريّة قائمة بنفس المولى ، وتمتاز الأحكام الوضعيّة بالانتزاع من تلك الإرادات حسب الخصوصيّات التي هي عليها ، فتنتزع شرطيّة الاستطاعة للتكليف بتعلّق الإرادة بالحجّ على تقديرها ، وقبل هذه الإرادة ليست الاستطاعة شرطا فعليّا وإن كان فيها اقتضاء الشرطيّة ، وفيها الخصوصيّة الداعية للمولى إلى طلب الحجّ عند وجودها ، لكنّ تلك الخصوصيّة ليست حكما وضعيّا بل أمر تكويني خارجي.
وإلى ذلك نظر الأستاذ العلّامة حيث قسّم الحكم الوضعي إلى أقسام ثلاثة : منه ما هو قابل للجعل بالأصالة وبالتبع ، وعدّ منه الحجّيّة والولاية ؛ ومنه ما هو قابل له بالتبع خاصّة ، وعدّ منه الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة للواجب ؛ ومنه ما لا يقبل شيئا منهما ، وعدّ منه الشرطيّة للوجوب (١).
وأنت خبير بأنّ الشرطيّة الفعليّة منتزعة من فعليّة المشروط الذي هاهنا عبارة عن التكليف ، فهي مجعولة بالتبع كشرط الواجب. وأمّا اقتضاء الشرطيّة غير المجعول بشيء من الجعلين فلا ينبغي عدّه من أقسام الحكم الوضعي ، ولا يطلق عليه لفظ الحكم بشيء على جميع المعاني.
وممّا ذكرنا ظهر أنّ شيئا من الأحكام الوضعيّة لا يصير مجرى للاستصحاب ، بل الاستصحاب يتوجّه إلى منشئهما وهو الحكم التكليفي ؛ وذلك لأنّ قضيّة جريان الاستصحاب فيه جعله استقلالا بخطاب الاستصحاب الذي هو من خطابات الشارع ، مع
__________________
(١) كفاية الأصول : ٤٠٠ ـ ٤٠٢.