ـ شرعيّة كانت الوظيفة أو عقليّة ، مكلّفا كان الملتفت أو غير مكلّف ـ لا بدّ وأن يقطع بالوظيفة ، ولا يعقل أن يبقى في الجهل ؛ فإنّه إن لم يقطع بشيء من الأحكام الشرعيّة الستّة فهو منته لا محالة إلى باب العقل ، وباب العقل ليس باب الحيرة والضلالة ؛ فإنّ حكومة العقل حكومة داخليّة ، والجهل إنّما يتصوّر في قوانين الحكومات الخارجيّة ، ومن ذلك الشارع.
فإن جعلنا الحكم الملتفت إليه ما يعمّ حكم العقل والشرع لم يحصل للمكلّف حين الالتفات إلّا حالة واحدة وهي حالة القطع ، وإن خصّصناه بحكم الشرع ثمّ عمّمنا حكم الشرع للواقعي والظاهري حصل له حالتان : القطع وعدم القطع ، ومرجعه على الأخير حكم العقل بالعمل بالظنّ إذا تمّت مقدّمات الانسداد ، أو الأصول العقليّة إن لم تتمّ.
وإن خصّصناه بحكم الشرع ثمّ خصّصنا ذلك الحكم بالواقعي حصل له حالات ثلاث : القطع ، وجهل قامت في مورده أمارة ، وجهل لم تقم في مورده أمارة معتبرة.
وتثليث شيخنا المرتضى رحمة الله للأقسام مبني على هذا (١) ، كما أنّ تثنية الأستاذ العلّامة قدس سرّه (٢) مبني على سابقه ، وتوحيدنا مبني على أوّل الوجوه ، والكلّ له وجه.
لكن لمّا كان المطلوب ضبط مجاري الأصول لم يكن محيص من التثليث حتّى يشار في قسم الشكّ إلى تمييز مجرى كلّ أصل عن مجرى صواحبه ، وبالاختصار يفوت هذا الغرض. فليس لأحد التعريض على تثليث الأقسام بأنّ أحكام القطع لا تختصّ بالقطع بالحكم الواقعي ، فينبغي أن يعمّ القطع إلى كلّ حكم ـ واقعيّا كان أو ظاهريّا ـ فتثنّى الأقسام ؛ فإنّ المقام ليس مقام الإيجاز ، وإلّا كان لنا توحيد الأقسام وتعميم القطع إلى كلّ حكم شرعيّا كان أو عقليّا ؛ لأنّ وجوب متابعة القطع لا يختصّ بالقطع بحكم الشارع.
ثمّ اعلم أنّ وجوب متابعة القطع ممّا لا يليق بأن يبحث عنه ؛ وذلك لأنّه أصل كلّ بحث ، فلولا أنّ تحريك العقل بالعمل بالقطع أصل مسلّم لغى كلّ بحث ؛ فإنّ نتيجة كلّ بحث القطع ، فلولا أنّ القطع محرّك لم يكن للبحث ثمر ، فإذا كان هذا أصل كلّ بحث ، فما ذا يعقل أن يكون أصلا لهذا البحث؟!
وليس الغرض في المقام أيضا البحث عن حجّيّة القطع بمعنى حكم العقل بوجوب متابعته ، وإنّما ذكر في صدر البحث من باب الإشارة والتنبيه على ما هو مسلّم بديهي.
__________________
(١) فرائد الأصول ١ : ٢.
(٢) كفاية الأصول : ٢٥٧.