أيضا ، فشمر (١) ليخلع ثيابه ويلقي بنفسه ، فأبوا عليه ذلك. ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضا ، لما يريده الله به من الأمر العظيم.
قال الله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ألقي في البحر ، وبعث الله عزوجل حوتا عظيما من البحر الأخضر فالتقمه وأمره الله تعالى ألا يأكل له لحما ولا يهشم له عظما فليس لك برزق ، فأخذه فطاف في البحار كلها وقيل إنه ابتلع ذلك الحوت حوت آخر أكبر منه.
قالوا : ولما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات ، فحرك جوارحه فتحركت ، فإذا هو حي فخر لله ساجدا وقال : يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يعبدك أحد في مثله.
وقد اختلفوا في مقدار لبثه في بطنه. فقال مجالد عن الشعبي : التقمه ضحى ولفظه عشية ، وقال قتادة : مكث فيه ثلاثا ، وقال جعفر الصادق سبعة أيام. ويشهد له شعر أمية ابن أبي الصلت :
وأنت بفضل منك نجيت يونسا |
|
وقد بات في أضعاف حوت لياليا |
وقال سعيد بن أبي الحسن وأبو مالك : مكث في جوفه أربعين يوما والله أعلم كم مقدار ما لبث فيه.
* * *
والمقصود أنه لما جعل الحوت يطوف به في قرار البحار اللجية ، ويقتحم به لجج الموج الأجاجي (٢) ، فسمع تسبيح الحيتان الرحمن ، وحتى سمع تسبيح الحصى لفالق الحب والنوى ، ورب السموات السبع والأرضين السبع وما بينها وما تحت الثرى. فعند ذلك وهنالك ، قال ما قال بلسان الحال والمقال ، كما أخبر عنه ذو العزة والجلال ، الذي يعلم السر والنجوى ، ويكشف الضر والبلوى ، سامع الأصوات وإن ضعفت ، وعالم الخفيات وإن دقت ، ومجيب الدعوات وإن عظمت ، حيث قال في كتابه المبين ، المنزل على رسوله الأمين ، وهو أصدق القائلين ورب العالمين وإله المرسلين : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ) أي إلى أهله (مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أن نضيق عليه. وقيل معناه : نقدر من التقدير وهي لغة مشهورة ، قدر وقدر كما قال الشاعر :
فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى |
|
تباركت ، ما تقدر يكن ، فلك الأمر |
__________________
(١) و : فتشمر.
(٢) الأجاجي : الملح.