وقد دل سياق القصة على نبوته من وجوه : أحدها : قوله تعالى : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً).
الثاني : قول موسى له :
(هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً* قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً* قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً* قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً.)
[١٨ / الكهف : ٦٦ ـ ٧٠]
فلو كان وليا وليس بنبي (١) لم يخاطبه بهذه المخاطبة ، ولم يرد على موسى هذا الرد ، بل موسى إنما سأل صحبته لينال ما عنده من العلم الذي اختصه الله به دونه. فلو كان غير نبي ، لم يكن معصوما ، ولم تكن لموسى ـ وهو نبي عظيم ورسول كريم واجب العصمة ـ كبير رغبة ولا عظيم طلبة في علم ولي غير واجب العصمة ، ولما عزم على الذهاب إليه والتفتيش عنه ، ولو أنه يمضي حقبا من الزمان ، قيل ثمانين سنة. ثم لما اجتمع به تواضع له وعظمه ، واتبعه في صورة مستفيد منه فدل (٢) على أنه نبي مثله يوحى إليه كما يوحى إليه ، وقد خص من العلوم اللدنية والأسرار النبوية بما لم يطلع الله عليه موسى الكليم ، نبي بني إسرائيل الكريم. وقد احتج بهذا المسلك بعينه الرماني (٣) على نبوة الخضر عليهالسلام.
الثالث : إن الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام ، وما ذاك إلا للوحي إليه من الملاك العلام.
وهذا دليل مستقل على نبوته ، وبرهان ظاهر على عصمته ، لأن الوالي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقى في خلده ، لأن خاطره ليس بواجب العصمة ، إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق. ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم ، علما منه بأنه إذا بلغ يكفر ، ويحمل أبويه على الكفر لشدة محبتهما له فيتابعانه عليه ، ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته ، صيانة لأبويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته ، دل ذلك على نبوته ، وأنه مؤيد من الله بعصمته.
وقد رأيت الشيخ أبا الفرج ابن الجوزي طرق هذا المسلك بعينه في الاحتجاج على نبوة الخضر وصححه. وحكى الاحتجاج عليه الرماني أيضا.
الرابع : أنه لما فسر الخضر تأويل الأفاعيل لموسى ووضح له عن حقيقة أمره وجليّه ، قال بعد ذلك كله : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) يعني ما فعلته من تلقاء نفسي ، بل [أمر](٤) أمرت به وأوحي إليّ فيه.
فدلت هذه الوجوه على نبوته. ولا ينافي ذلك حصول ولايته ، بل ولا رسالته ، كما قاله آخرون. وأما كونه ملكا من الملائكة [فقول](٥) غريب جدا ، وإذا ثبتت نبوته ـ كما ذكرناه ، لم
__________________
(١) و : ل ولم يكن بنبي
(٢) و : دل.
(٣) و : البلقاني.
(٤) من : و.
(٥) من و.