يبق لمن قال بولايته وأن الولي قد يطلع على حقيقة الأمور دون أرباب الشرع الظاهر ، مستند يستندون إليه ، ولا معتمد يعتمدون عليه.
وأما الخلاف في وجوده إلى زماننا هذا ، فالجمهور على أنه باق إلى اليوم ، قيل لأنه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة ، وقيل لأنه شرب من عين الحياة فحيي. وذكروا أخبارا استشهدوا بها على بقائه إلى الآن. وسنوردها [مع غيرها](١) إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وهذه وصيته لموسى حين : (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً). روى في ذلك آثار منقطعة كثيرة : قال البيهقي : أنبأنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، حدثنا أبو عبد الله الصفار ، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا جرير ، حدثني أبو عبد الله الملطي قال : لما أراد موسى أن يفارق الخضر قال له موسى : أوصني ، قال :
كن نفاعا ولا تكن ضرارا ، كن بشاشا ولا تكن غضبان ، ارجع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة. وفي رواية من طريق أخرى زيادة : ولا تضحك إلا من عجب.
وقال وهب بن منبه قال الخضر : يا موسى إن الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها!
وقال بشر بن الحارث الحافي : قال موسى للخضر : أوصني ، فقال : يسر الله عليك طاعته.
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه ابن عساكر من طريق زكرياء بن يحيى الوقاد ـ إلا أنه من الكذابين الكبار ـ قال قرىء على عبد الله بن وهب وأنا أسمع ، قال الثوري ، قال مجالد ، قال أبو الوداك ، قال أبو سعيد الخدري ، قال عمر بن الخطاب ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : قال أخي موسى يا رب وذكر كلمته ـ فأتاه الخضر وهو فتى طيب الريح حسن بياض الثياب مشمرها ، فقال : السلام عليك ورحمة الله يا موسى بن عمران ، إن ربك يقرأ عليك السلام. قال موسى : هو السلام وإليه السلام ، والحمد لله رب العالمين ، الذي لا أحصى نعمه ، ولا أقدر على أداء شكره إلا بمعونته.
ثم قال موسى : أريد أن توصيني بوصية ينفعني الله بها بعدك ، فقال الخضر : يا طالب العلم ان القائل أقل ملالة من المستمع فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم ، واعلم أن قلبك وعاء فأنظر ماذا تحشو به وعاءك واعزف عن (٢) الدنيا وانبذها وراءك فإنها ليست لك بدار ولا لك فيها محل قرار ، وإنما جعلت بلغة للعباد والتزود منها ليوم المعاد (٣) ورض نفسك على الصبر وتخلص من الإثم.
يا موسى تفرغ للعلم إن كنت تريده ، فإنما العلم لمن تفرغ له ، ولا تكن مكثارا للعلم مهذارا فإن كثرة المنطق تشين العلماء وتبدي مساوىء السخفاء ، ولكن عليك بالاقتصاد ، فإن ذلك من التوفيق والسداد وأعرض عن الجهال وماطلهم ، واحلم عن السفهاء ؛ فإن ذلك فعل الحكماء وزين العلماء ، وإذا شتمك الجاهل فاسكت عنه علما ، وجانبه حزما ، فإن ما بقي من جهله عليك وسبه إياك أكثر وأعظم.
__________________
(١) : من و.
(٢) م : وأعرف من الدنيا.
(٣) و : المعاد.