وفي رواية فأسلكه فيها ، حتى وجد طعم الحمأة فخرج منها وهو يقول : ما لقي أحد من أحد ما لقيت منك يا ابن مريم.
وقد روي نحو هذا بأبسط منه من وجه آخر ، فقال الحافظ أبو بكر الخطيب : أخبرني أبو الحسن بن رزقويه ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن سيدي ، حدثنا أبو محمد الحسن بن علي القطان ، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار ، أنبأنا علي بن عاصم ، حدثني أبو سلمة سويد عن بعض أصحابه ، قال : صلى عيسى ببيت المقدس فانصرف ، فلما كان ببعض العقبة عرض له إبليس فاحتبسه فجعل يعرض عليه ويكلمه ويقول له : إنه لا ينبغي لك أن تكون عبدا. فأكثر عليه وجعل عيسى يحرص على أن يتخلص منه ، فجعل لا يتخلص منه فقال له فيما يقول : لا ينبغي لك يا عيسى أن تكون عبدا ، قال : فاستغاث عيسى بربه ، فأقبل جبريل وميكائيل فلما رآهما إبليس كف ، فلما استقر معه على العقبة اكتنفا عيسى وضرب جبريل إبليس بجناحه فقذفه في بطن الوادي. قال : فعاد إبليس معه وعلم أنهما لم يؤمرا بغير ذلك. فقال لعيسى : قد أخبرتك أنه لا ينبغي أن تكون عبدا ، إن غضبك ليس بغضب عبد ، وقد رأيت ما لقيت منك حين غضبت ولكن أدعوك لأمر هو لك ، مر الشياطين فليطيعوك فإذا رأى البشر أن الشياطين أطاعوك عبدوك ، أما إني لا أقول أن تكون إلها ليس معه إله ولكن الله يكون إلها في السماء وتكون أنت إلها في الأرض. فلما سمع عيسى ذلك منه استغاث بربه وصرخ صرخة شديدة ، فإذا إسرافيل قد هبط فنظر إليه جبريل وميكائيل فكف إبليس ، فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه فصك به عين الشمس ، ثم ضربه ضربة أخرى فأقبل إبليس يهوي ومر عيسى وهو بمكانه فقال : يا عيسى لقد لقيت فيك اليوم تعبا شديدا فرمى به في عين الشمس ، فوجد سبعة أملاك عند العين الحامية قال : فغطوه فجعل كلما خرج (١) غطوه في تلك الحمأة قال : والله ما عاد إليه بعد.
قال وحدثنا إسماعيل العطار ، حدثنا أبو حذيفة قال : واجتمع إليه شياطينه فقالوا : سيدنا لقد (٢) لقيت تعبا قال : إن هذا عبد معصوم ليس لي عليه من سبيل ، وسأضل به بشرا كثيرا وأبث فيهم أهواء مختلفة واجعلهم شيعا ويجعلونه وأمه إلهين من دون الله. قال : وأنزل الله فيما أيد به عيسى وعصمه من إبليس قرآنا ناطقا بذكر نعمته على عيسى فقال : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) يعني إذ قويتك بروح القدس يعني جبريل (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) الآية كلها وإذ جعلت المساكين لك بطانة وصحابة وأعوانا ترضى بهم وصحابة وأعوانا يرضون بك هاديا وقائدا إلى الجنة ، فذلك فعلي خلقان عظيمان من لقيني بهما فقد لقيني بأزكى الخلائق وأرضاها عندي.
وسيقول لك بنو إسرائيل صمنا فلم يتقبل صيامنا وصلينا فلم تقبل صلاتنا وتصدقنا فلم تقبل صدقاتنا وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاؤنا. فقل لهم : ولم ذلك وما الذي يمنعني؟ أن
__________________
(١) كلما صرح.
(٢) م : قد.