وربما بولغ فقيل : الحكم بأنّ أحد الطرفين على السّواء البحت لا يرجّح على الآخر إلاّ بسبب فطرىّ واقع فى نفوس الصّبيان ، بل هو مركوز فى الطبائع البهيميّة. ولذلك ترى البهائم تنفر من صوت الخشب ؛ إذ قد ارتكز فى قواها أنّ وجود الشيء لا يترجّح على عدمه إلاّ لمرجّح. فالصّوت لا يوجد بدون الخشب ، بل بدون ما يقتضيه مطلقا.
وهذا النّمط من البيان هو ما يرومه الرّائم بقوله : العلم بالإمكان ملزوم للعلم بالحاجة ، لا مجرّد أنّ العلم بالإمكان موقع التّصديق بالحاجة حتّى يحوج إلى النّظر فى أنّه هل يكون العلم بمعلول ما بخصوصه موجب العلم بعلّة بخصوصها ، أم لا يكون إيجاب العلم بالشّيء بخصوصه إلاّ شأن العلم بالعلّة. ثمّ التّمسّك بأنّ العلم بالإمكان قد استلزم العلم بالحاجة. ومن الواضح أنّ الحاجة علّة للإمكان ، فبقى الإمكان علّة للحاجة.
<١٤> دقيقة استشراقيّة تحقيقيّة
إنّى بفضل ربّى أعلّمك كيف تزن كنه هذه المسألة بقسطاس التّحصيل. اعلم أنّه كما أنّ طباع الإمكان هو سبب طباع الاحتياج إلى السّبب ، فكذلك طباع الإمكان هو العلّة لفاقريّة نفس الماهيّة فى سنخ جوهرها وأصل ذاتها إلى جاعل يجعل نفسها ويفعل تقرّرها المستتبع للوجود.
أمّا على أصول الحكمة اليمانيّة فلما تعرّفت أنّ الإمكان هو لا ضرورة التقرّر واللاّتقرّر ، ويستتبع ذلك (٩٩) لا ضرورة الوجود والعدم ؛ لشهادة الضّروريّة الفطريّة أنّ ضرورة التّقرّر مستتبعة ضرورة الوجود ، وضرورة اللاّتقرّر مستتبعة ضرورة العدم ، وضرورىّ التقرّر ضرورىّ الوجود ، وضرورىّ اللاّتقرّر ضرورىّ العدم. فإذا لم يكن الممكن بالذّات لا ضرورىّ التقرّر ولا ضرورىّ اللاّتقرّر ، لزم : إمّا أن يكون واجب الوجود بالذّات أو ممتنع الوجود بالذّات ، فيكون عقد فرض الإمكان فيه قد انفسخ.