ثمّ كما استوقن ذلك فى جانب المجعول فليستيقن فى جانب الجاعل ، وليحصل أنّه ليس من شرط الجاعل بما هو جاعل أن يكون جعله ذات مجعولة مبتدأة فى زمان ما بعد اللاّجعل فى زمان منقض متقدّم ، بل كلّما كان التّأثير أقدم زمانا وأبقى استمرارا كان الفاعل أفعل وأدوم فعلا.
فكما بيّن أنّ المجعوليّة شيء وصيرورة المجعوليّة شيئا ابتداء ، فى زمان ما بعد زمان سابق شيء آخر ، وليست المجعوليّة تستلزم ذلك ، بل ربما استوعبت جميع الأزمنة ؛ فكذلك الجاعليّة ، أعنى : تذويت الذّات وإفادة الوجود شيء ، وصيرورة الجاعل جاعلا ، أى ابتداءه بالجعل فى زمان ما بعد أزمنة منقضية شيء آخر. وليس من حقّ الجعل ذلك ، بل ربما كان هو إفادة الذّات والوجود فى جميع الأزمنة. وكما الذّات غير حدوث الذّات فكذلك الجعل غير ابتداء الجعل. (١٠٧)
وكلّ ذات هى من الغير فإنّ ذلك الغير جاعلها ، سواء كان فى زمان ما أو فى جملة امتداد الزّمان. فمفهوم الوجوب بالغير بما هو وجوب بالغير لا يمنع الدّوام الزّمانىّ ولا اللاّدوام الزّمانىّ ، بل الواجب بالغير فى جملة الزّمان أحقّ بالوجوب بالغير والتّعلّق به من الواجب بالغير على التّوقيت بشرط خاصّ من الزّمان.
وعند الجمهور من المتشبّهين بأهل النّظر أنّ العلّيّة هى أوّل صيرورة العلّة علّة ، والعلّة هى ما يصير علّة بعد أن لم يكن علّة ، بعديّة زمانيّة. فهم يعتبرون بالإحداث الزّمانىّ فى مفهوم الفعل. والفعل عند الفلاسفة المتهوّسين بقدم المعلولات أعمّ من الإحداث والإبداع ، وبالجملة من جميع ضروب التّأثير ؛
وعند من يحمل عرش نضج الحكمة ، وهو مقنّن الحكمة الحقّة اليمانيّة : الجعل ـ وهو الفعل ـ أعمّ من الإحداث الزّمانىّ والإبداع ، وهو يساوق (١) الإحداث الدّهرىّ ؛ إذ كلّ مجعول ومفعول فهو حادث دهرىّ ، كما أنّه حادث ذاتىّ وإن لم يكن هو معتبرا فى أصل مفهومه. وليس وصف الحدوث الدّهرىّ من تلقاء الجاعل ، بل هو
__________________
(١). أى : بحسب التحقّق ، خلافا للفلاسفة ، لا بحسب المفهوم أيضا ، سمع.