وأما الخلق والإيجاد فلا يحتاج من حيث تحقق معناه الى شیء ثابت أو مفروض فالغذاء مثلاً مخلوق موجد في نفسه ، وكذا القوة الغاذية مخلوقة ، والانسان مخلوق .
ولما كان كل رزق لله ، وكل خير لله محضاً فما يعطيه تعالى من عطية ، وما أفاضه من خير وما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض ، وبلا شيء مأخوذ في مقابله إذ كل ما فرضنا من شيء فهو له تعالى حقاً ، ولا استحقاق هناك إذ لا حق لاحد عليه تعالى إلا ما جعل هو على نفسه من الحق كما جعله في مورد الرزق ، قال تعالى : « وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا » هود ـ ٦ ، وقال تعالى : « فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ » الذاريات ـ ٢٣ .
فالرزق مع كونه حقاً على الله لكونه حقاً مجعولاً من قبله عطية منه من غير استحقاق للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحق .
ومن هنا يظهر أن للإنسان المرتزق بالمحرمات رزقاً مقدراً من الحلال بنظر التشريع فإن ساحته تعالى منزهة من أن يجعل رزق إنسان حقاً ثابتاً على نفسه ثم يرزقه من وجه الحرام ثم ينهاه عن التصرف فيه ويعاقبه عليه .
وتوضيحه ببيان آخر : أن الرزق لما كان هو العطية الإلهية بالخير كان هو الرحمة التي له على خلقه ، وكما أن الرحمة رحمتان : رحمة عامة تشمل جميع الخلق من مؤمن وكافر ، ومتق وفاجر ، وإنسان وغير إنسان ، ورحمة خاصة وهي الرحمة الواقعة في طريق السعادة كالإيمان والتقوى والجنة ، كذلك الرزق منه ما هو رزق عام ، وهو العطية الإلهية العامة الممدة لكل موجود في بقاء وجوده ، ومنه ما هو رزق خاص ، وهو الواقع في مجرى الحل .
وكما أن الرحمة العامة والرزق العام مكتوبان
مقدران ، قال تعالى : « وَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا
» الفرقان ـ ٢ ، كذلك الرحمة الخاصة والرزق الخاص مكتوبان مقدران ، وكما أن الهدى ـ وهو رحمة خاصة ـ مكتوب مقدر تقديراً تشريعياً لكل إنسان مؤمناً كان أو كافراً ، ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب ، قال تعالى : « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن
رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
» الذاريات ـ ٥٨ ، وقال تعالى : « وَقَضَىٰ
رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ » الإسراء ـ ٢٣ ، فالعبادة
وهي تستلزم الهدى وتتوقف عليه مقضية مقدرة