والكلام في قولها : وذريتها ، من حيث أنه قول مطلق من شرط وقيد لا يصح انتفوه به في حضرة التخاطب ممن لا علم له به مع أن مستقبل حال الإنسان من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه ؛ نظير الكلام في قولها : رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً ، على ما تقدم بيانه فليس إلا أنها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولداً ذكراً صالحاً ثم لما حملت وتوفي عمران لم تشك أن ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود ، ثم لما وضعتها وبان لها خطأ حدسها أيقنت أنها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحولت نذرها من الابن الى البنت ، وسمتها مريم ( العابدة ، الخادمة ) وأعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبر في كلامه تعالى .
قوله تعالى : فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً ؛ القبول إذا قيد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبل الذي معناه القبول عن الرضا ، فالكلام في معنى قولنا : فتقبلها ربها تقبلاً فإنما حلل التقبل إلى القبول الحسن ليدل على أن حسن القبول مقصود في الكلام ، ولما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز .
وحيث قوبل بهاتين الجملتين أعني قوله : فتقبلها الى قوله : حسناً ، الجملتان في قولها : وإنى سميتها الى قولها : الرجيم كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله : فتقبلها ربها بقبول حسن ، قبولاً لقولها وإنى سميتها مريم ، وقوله : وأنبتها نباتاً حسناً ، قبولاً وإجابة لقولها : وإني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ، فالمراد بتقبلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرب امرأة عمران بالنذر ، وإعطاء الثواب الاخروي لعملها فإن القبول إنما نسب الى مريم لا الى النذر وهو ظاهر بل قبول البنت بما أنها مسماة بمريم ومحررة فيعود معناه الى اصطفائها ( وقد مر أن معنى الاصطفاء هو التسليم التام لله سبحانه ) فافهم ذلك .
والمراد بإنباتها نباتاً حسناً إعطاء الرشد والزكاة لها ولذريتها ، وإفاضة الحيوة لها ولمن ينمو منها من الذرية حيوة لا يمسها نفث الشيطان ورجس تسويله ووسوسته ، وهو الطهارة .
وهذان أعني القبول الحسن الراجع الى الاصطفاء ، والنبات الحسن الراجع الى التطهير هما اللذان يشير اليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآيات : وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك الآية وسنوضحه بياناً إنشاء الله العزيز .