كالزبد يظهر ظهوراً ثم يسرع في الزوال وذلك كالأحكام المنسوخة التي تنسخه النواسخ من الآيات ، فإن المنسوخ مقتضى ظاهر طباعه أن يدوم لكن الحكم الناسخ يبطل دوامه ويضع مكانه حكماً آخر . هذا بالنظر إلى نفس هذه المعارف مع قطع النظر عن ورودها في وادي البيان اللفظي .
وأما المعارف الحقة من حيث كونها واردة في ظرف اللفظ والدلالة فإنها بورودها أودية الدلالات اللفظية تتقدر بأقدارها ، تتشكل بأشكال المرادات الكلامية بعد إطلاقها ، وهذه أقوال ثابتة من حيث مراد المتكلم بكلامه إلا أنها مع ذلك أمثال يمثل بها أصل المعنى المطلق غير المتقدر ، ثم إنها بمرورها في الأذهان المختلفة تحمل معاني غير مقصودة كالزبد في السيل ، لأن الأذهان من جهة ما تخزنه من المرتكزات والمألوفات تتصرف في المعاني الملقاة اليها ، وجل هذا التصرف إنما هو في المعاني غير المألوفة كالمعارف الأصلية ، ومصالح الأحكام وملاكاتها كما مر ، وأما الأحكام والقوانين فلا تصرف فيها مع قطع النظر عن ملاكاتها فإنها مألوفة ، ومن هنا يظهر أن المتشابهات إنما هي الآيات من حيث اشتمالها على الملاكات والمعارف ، دون متن الأحكام والقوانين الدينية .
ومنها : أنه تحصل من البيان السابق : أن البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقة الإلهية لأن البيان نزل في هذه الآيات الى سطح الأفهام العامة التي لا تدرك إلا الحسيات ولا تنال المعاني الكلية إلا في قالب الجسمانيات ، ولما استلزم ذلك في إلقاء المعاني الكلية المجردة عن عوارض الأجسام والجسمانيات أحد محذورين : فإن الأفهام في تلقيها المعارف المرادة منها إن جمدت في مرتبة الحس والمحسوس انقلبت الأمثال بالنسبة إليها حقائق ممثلة ، وفيه بطلان الحقائق وفوت المرادات والمقاصد وإن لم تجمد وانتقلت الى المعاني المجردة بتجريد الأمثال عن الخصوصيات غير الدخيلة لم يؤمن من الزيادة والنقيصة .
نظير ذلك أنا لو القي الينا المثل السائر : عند الصباح يحمد القوم السرى ، أو تمثل لنا بقول صخر :
أهم بأمر الحزم لا أستطيعه |
|
وقد حيل بين العير والنزوان |