فالحق : أن المراد بالاكراه في الاية ما يقابل الاختيار ، وأن الجملة خبرية لا إنشائية ، والمراد من الاية الكريمة هو بيان ما تكرر ذكره في الايات القرآنية كثيرا ، من أن الشريعة الالهية غير مبتنية على الجبر ، لا في أصولها ولا في فروعها ، وإنما مقتضى الحكمة إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإيضاح الاحكام ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ، ولئلا يكون للناس على الله حجة ، كما قال تعالى :
« إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ٧٦ : ٣ ».
وحاصل معنى الاية أن الله تعالى لا يجبر أحدا من خلقه على إيمان ولا طاعة ، ولكنه يوضح الحق يبينه من الغي ، وقد فعل ذلك ، فمن آمن بالحق فقد آمن به عن اختيار ، ومن اتبع الغي فقد اتبعه عن اختيار والله سبحانه وإن كان قادرا على أن يهدي البشر جميعا ـ ولو شاء لفعل ـ لكن الحكمة اقتضت لهم أن يكونوا غير مجبورين على أعمالهم ، بعد إيضاح الحق لهم وتمييزه عن الباطل ، فقد قال عز من قائل :
« وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ٥ : ٤٨. قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ٦ : ١٤٩. وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ١٦ : ٣٥ ».