وحينئذ لا يكون لعلم المكلّف أو جهله أي مدخليّة في ثبوت هذا التنافي أو ارتفاعه ، بمعنى أنّه إذا علم بالتنافي فليس علمه هو الذي يحقّق التنافي ، وإذا جهل بالتنافي فجهله لا يرفع هذا التنافي ، فالتنافي موجود في عالمه وواقع وجوده وهو الجعل والتشريع ، وليس مرتبطا بعلم المكلّف أو بجهله.
وهذا نظير اجتماع الضدّين أو النقيضين فإنّهما ممتنعان سواء علم المكلّف باجتماعهما أم جهل به. وعليه ، فيحكم ببطلان عمله سواء كان عباديّا أم توصّليّا ؛ لأنّه ما أتى به ليس مأمورا به ؛ لأنّ الأمر يسقط في حالة التعارض مع النهي لكون النهي أقوى ؛ لأنّ الإطلاق فيه شمولي انحلالي.
وأمّا الأمر الثاني : فإن قيل بعدم صحّة العمل وبطلانه لأجل عدم تحقّق قصد القربة فيه ، فهذا مضافا إلى اختصاصه بالواجبات التعبّديّة وعدم شموله للواجبات التوصّليّة ؛ لأنّه لا يشترط فيها قصد القربة ، فهو أيضا يفصّل فيه بين العالم والجاهل.
والوجه في هذا التفصيل : هو أنّ المانع من صحّة العمل العبادي هو عدم إمكان تأتّي قصد القربة من المكلّف حال علمه بالحرمة ؛ لأنّه مع علمه بالحرمة فسوف يكون الفعل الحرام منجّزا عليه ، ومع تنجّزه تكون حرمته فعليّة ومع كونها فعليّة تكون مبغوضة للمولى ، والفعل المبغوض للمولى لا يمكن التقرّب به إليه.
إلا أنّ هذا كلّه فرع الفعليّة ، والفعليّة متوقّفة على التنجّز والتنجّز موقوف على الوصول والوصول موقوف على العلم ، إذا مع عدم علم المكلّف بالحرمة لا تكون الحرمة واصلة إليه ، ومع عدم وصولها إليه لا تكون منجّزة وبالتالي لا تكون فعليّة بحقّه ، ومع عدم فعليّتها لا يكون الفعل مبغوضا بالفعل ، فيمكنه أن يقصد التقرّب بالفعل الحرام واقعا مع جهله به ؛ لأنّ قصد القربة يمكن أن يتأتّى منه في هذه الحالة ؛ لأنّه لا يقصد التقرّب بالمبغوض إلى المولى ، بل يقصد التقرّب بهذا العمل الذي يعتقد أنّه مباح وليس بمحرّم.
ومن هنا يظهر لنا السرّ في فتوى المشهور من الحكم بصحّة العبادة المأتي بها في المجمع فيما إذا كان جاهلا أو ناسيا للحرمة ، فإنّ التخريج الصحيح لها هو ما تقدّم ذكره.
وبهذا ينتهي البحث عن اجتماع الأمر والنهي.
* * *