مضافا إلى أنّ إدراك الحسن والقبح شيء وإدراك المصلحة والمفسدة شيء آخر ، فإنّ إدراك الحسن والقبح من شئون العقل العملي بينما إدراك المصلحة والمفسدة من شئون العقل النظري ، فهنا وقع خلط بين الأمرين. ونحن حيث قلنا برجوع العقل العملي إلى العقل النظري بالتحليل فيدخل هذا الاحتمال في البحث المتقدّم.
والآخر : أن يراد إثبات الملازمة بلحاظ نفس الحسن والقبح ، بمعنى أنّ نفس حكم العقلاء بالحسن والقبح يلازمه حكم الشارع بالوجوب أو الحرمة ، فهذه الملازمة لا برهان ولا دليل عليها.
ومجرّد حكم العقلاء بحسن شيء أو قبحه لا يلازمه دائما أو قطعا حكم الشارع ؛ لأنّه يشترط فيه وجود أمور أخرى وانتفاء ما يكون مانعا أيضا مضافا إلى الحسن والقبح في الفعل. فدائما يحتمل أن يكون هناك شيء آخر غير الحسن والقبح ، وهذا ناشئ من محدوديّة اطّلاع العقل والعقلاء.
وأمّا الاتّجاه الثاني : فقد قرّب بأنّ جعل الشارع للحكم في مورد حكم العقل بالحسن والقبح لغو ؛ لكفاية الحسن والقبح للإدانة والمسئوليّة والمحرّكيّة.
ويرد على ذلك : أنّ حسن الأمانة وقبح الخيانة مثلا وإن كانا يستبطنان درجة من المسئوليّة والمحرّكيّة غير أنّ حكم الشارع على طبقهما يؤدّي إلى نشوء ملاك آخر للحسن والقبح وهو طاعة المولى ومعصيته ، وبذلك تتأكّد المسئوليّة والمحرّكيّة ، فإذا كان المولى مهتمّا بحفظ واجبات العقل العملي بدرجة أكبر ممّا تقتضيه الأحكام العمليّة نفسها حكم على طبقها وإلا فلا.
وبذلك يتّضح أنّه لا ملازمة بين الحكم العقلي العملي وحكم الشارع على طبقه ، ولا بينه وبين عدم حكم الشارع على طبقه ، فكلا الاتّجاهين غير تامّ.
الاتّجاه الثاني : ذهب إلى استحالة الملازمة ، فإذا حكم العقل العملي بشيء استحال أن يكون للشارع حكم على طبقه.
وقد قرّب ذلك بلزوم اللغويّة ؛ وذلك أنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو بقبحه كفى ذلك في إثبات المحرّكيّة والمسئوليّة والإدانة ؛ لأنّ حكم العقل بالحسن والقبح يستنتج ويقتضي سلوكا عمليّا معيّنا حسب ما يقتضيه الفعل.