ثمّ إنّ الأحكام العقليّة : تارة ترجع إلى مدركات العقل النظري ، وأخرى إلى مدركات العقل العملي.
والمراد من العقل النظري : إدراك العقل لما هو كائن وموجود. والمراد من العقل العملي : إدراك ما ينبغي أن يكون ويوجد.
والدليل العقلي المبحوث عنه هنا يشمل كلا القسمين ، فيبحث عن حجّيّة كلّ قضيّة يدركها العقل سواء كان إدراكه لها نظريّا أم عمليّا ، فمثلا مسألة اجتماع الأمر والنهي أو مسألة الترتّب أو وجوب المقدّمة أو مسألة الضدّ كلّها ترجع إلى مدركات العقل النظري ؛ لأنّ البحث ينصبّ حول الإمكان أو الوجوب أو الاستحالة فيها ، بمعنى تحليل هذا الأمر الموجود.
بينما البحث عن حسن العدل وقبح الظلم ومصاديقهما في الخارج كالصدق والكذب ونحوهما ترجع إلى مدركات العقل العملي ، وهو وإن كان يبحث فيه عن الحكم الشرعي إلا أنّه يحتاج إلى ضمّ الملازمة القائلة : ( بأن ما حكم به العقل يحكم به الشرع ) أيضا ؛ دون النحو الأوّل ، ولو لا هذه الملازمة لم يمكن اكتشاف حكم الشرع من خلال إدراك العقل العملي بمجرّده بخلاف مدركات العقل النظري ، فإنّ ما يدركه يكون هو حكم الشرع أيضا ؛ لأنّ حكم العقل بضرورة الاستحالة أو الوجوب لا يمكن أن يكون الشرع مخالفا له.
والبحث عن القضايا العقليّة على قسمين : فتارة يكون بحثا كبرويّا ، وأخرى يكون صغرويّا.
والمراد من البحث الكبروي : هو البحث عن حجّيّة الدليل العقلي ، أي أنّ ما أدركه العقل هل يكون حجّة أم لا؟ والحجّيّة هنا بمعناها الأصولي ، فيكون البحث حول منجّزيّة أو معذّريّة الحكم العقلي شرعا.
بينما المراد من البحث الصغروي : هو البحث عن تحقيق موضوع حكم العقل ، فهل العقل يحكم بكذا أم لا؟ أو هل العقل يدرك هذا الأمر أم لا؟ فيبحث فيه عن إدراك العقل للطريق الموصل للحكم الشرعي ، فهل هذا الأمر طريق إلى الأحكام الشرعيّة وموصل إليها على نحو الجزم واليقين كالتواتر والإجماع والسيرة ، أم أنّه طريق ظنّي لا يوصل إليها إلا ظنّا ، ويحتاج الأخذ به إلى تعبّد شرعي لاحقا كالقياس والاستحسان ونحوهما؟