من باب المدينة ، ثم إن بني إسرائيل تغيروا فما برحوا حتى كر عليهم ، وذلك قوله تعالى : « فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم » فأخبرهم أرميا عليهالسلام أن بخت نصر يتهيأ للمسير إليكم ، وقد غضب الله عليكم ، وأن الله تعالى جلت عظمته يستتيبكم لصلاح آبائكم ويقول : هل وجدتم أحدا عصاني فسعد بمعصيتي؟ أم هل علمتم أحدا أطاعني فشقي بطاعتي؟ وأما أحباركم ورهبانكم فاتخذوا عبادي خولا يحكمون فيهم بغير كتابي حتى أنسوهم ذكري ، وأما ملوككم وأمراؤكم فبطروا نعمتي ، وغرتهم الحياة الدنيا وأما قراؤكم وفقهاؤكم فهم منقادون للملوك يبايعونهم على البدع ويطيعونهم في معصيتي وأما الاولاد فيخوضون مع الخائضين ، وفي كل ذلك ألبسهم العافية (١) فلابدلنهم بالعز ذلا ، وبالامن خوفا ، إن دعوني لم أجبهم ، وإن بكوا لم أرحمهم.
فلما بلغهم ذلك نبيهم كذبوه وقالوا : لقد أعظمت الفرية على الله ، تزعم أن الله معطل مساجده من عبادته! فقيدوه وسجنوه ، فأقبل بخت نصر وحاصرهم سبعة أشهر حتى أكلوا خلاهم ، وشربوا أبوالهم ، ثم بطش بهم بطش الجبارين بالقتل والصلب والاحراق وجذع الانوف ونزع الالسن والانياب ووقف النساء ، فقيل له : إن لهم صاحبا كان يحذرهم بما أصابهم فاتهموه وسجنوه ، فأمر بخت نصر فأخرج من السجن ، فقال له : أكنت تحذر هؤلاء؟ قال : نعم ، قال : وأنى علمت ذلك؟ قال : أرسلني الله به إليهم ، قال فكذبوك وضربوك؟ قال : نعم ، قال : لبئس القوم قوم ضربوا نبيهم وكذبوا رسالة ربهم ، فهل لك أن تلحق بي فأكرمك ، وإن أحببت أن تقيم في بلادك آمنتك؟ قال أرميا عليهالسلام : إني لم أزل في أمان الله منذ كنت لم أخرج منه ، ولو أن بني إسرائيل لم يخرجوا من أمانه لم يخافوك ، فأقام أرميا (ع) مكانه بأرض إيليا (٢) وهي حينئذ خراب قد هدم بعضها ، فلما سمع به من بقي من بني إسرائيل اجتمعوا إليه فقالوا : عرفنا أنك نبينا فانصح لنا ، فأمرهم أن يقيموا معه ، فقالوا : ننطلق إلى ملك مصر نستجير ، فقال أرميا عليهالسلام : إن ذمة الله أوفى الذمم ، فانطلقوا إلى مصر وتركوا أرميا ، فقال لهم الملك : أنتم في ذمتي ،
__________________
(١) لعله مصحف « البستهم العافية ».
(٢) ايلياء بالمد والقصر وقيل فيه لغة ثالثة حذف الياء الاولى : اسم مدينة بيت المقدس.