كما لا يبقى الابل في طريق الحج إلا بعلف وماء وجلال.
ومثال العبد في نسانه نفسه ومقصده مثال الحاج الذي يقف في منازله الطريق ، ولا يزال يعلف الدابة ويتعهدها وينظفها ويكسوها ألوان الثياب و يحمل إليها أنواع الحشيش ، ويبرد لها الماء بالثلج ، حتى تفوته القافلة ، وهو غافل عن الحج وعن مرور القافلة ، وعن بقائه في البادية فريسة للسياع هو وناقته والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده وقلبه إلى الكعبة والحج ، وإنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة فكذلك البصئير في سفر الآخرة لا يشغل بتعهد البدن إلا بالضرورة ، كما لا يدخل بيت الماء إلا للضرورة ، ولا فرق بين إدخال الطعام في البدن وبين إخراجه من البطن.
وأكثر ما شغل الناس عن الله البدن فان القوت ضروري وأمر الملبس والمسكن أهون ، ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الامور ، واقتصروا عليها لم تستغرقهم أشغال الدنيا ، فانما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا وحكمتها وحظوظهم منها ولكنهم جهلوا وغفلوا ، وتتابعت أشغال الدنيا واتصلت بعضها ببعض ، وتداعت إلى غير نهاية محدودة ، فتاهوا في كثرة الاشغال ، ونسوا مقصودها.
وأما تفاصيل أشغال الدنيا وكيفية حدوث الحاجة إليها وانجرار بعضها إلى بعض فمما يطول ذكرها وخارج عن مقصود كتابنا.
وإذا تأملت فيها علمت أن الانسان لاضطراره إلى القوت والمسكن والملبس يحتاج إلى خمس صناعات : وهي الفلاحة لتحصيل النبات ، والرعاية لحفظ الحيوانات واستنتاجها ، والاقتناص لتحصيل ما خلق الله من صيد أو معدن أو حشيش أو حطب ، والحياكة للباس ، والبناء للمسكن ، ثم يحتاج بسبب ذلك إلى التجارة والحدادة والخرز أي إصلاح جلود الحيوانات وأجزائها ، ثم لبقاء النوع إلى المنكح ، ثم إلى حفظ الولد وتربيته ، ثم لاجتماعهم إلى قرية يجتمعون فيها ثم إلى قاض وحاكم يتحاكمون إليه ، ثم إلى جند يحرسهم عن الاعادي ، ثم إلى خراج يعان به الجند ، ثم إلى عمال وخزان لذلك ، ثم إلى ملك يدبرهم