وقال تعالى وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً » النساء : ـ ١١٣.
ومن الدليل على أن النهي ـ « فَلا تَسْئَلْنِ » إلخ ـ نهي عما لم يقع بعد قول نوح عليهالسلام بعد استماع هذا النهي : « رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ » ولو كان سأل شيئا لقيل : أعوذ بك من سؤالي ذلك ليفيد المصدر المضاف إلى المعمول التحقق والارتكاب.
ومن الدليل أيضا على أنه عليهالسلام لم يسأل ذلك تعقيب قوله : « فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » بقوله : « إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ » فإن معناه : أني أنصح لك في القول أن لا تكون بسؤالك ذلك من الجاهلين ، ولو كان نوح سأل ذلك لكان من الجاهلين لأنه سأل ما ليس له به علم.
فإن قلت : إنه تعالى قال : « أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ » أي ممن استقرت فيه صفة الجهل ، واستقرارها إنما يكون بالتكرار لا بالمرة والدفعة ، وبذلك يعلم أنه سأل ما سأل وتحقق منه الجهل مرة وإنما وعظه الله تعالى بما وعظ لئلا يعود إلى مثله فيتكرر منه ذلك فيدخل في زمرة الجاهلين.
قلت : زنة الفاعل كجاهل لا تدل على الاستقرار والتكرر وإنما تفيده الصفة المشبهة كجهول على ما ذكروه ، ويشهد لذلك قوله تعالى في قصة البقرة : « قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ » البقرة : ـ ٦٧ ، وقوله في قصة يوسف : « وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ » يوسف : ـ ٣٣ وقوله خطابا لنبيه صلىاللهعليهوآله : « وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ » الأنعام : ـ ٣٥.
وأيضا لو كان المراد من النهي عن السؤال أن لا يتكرر منه ذلك بعد ما وقع مرة لكان الأنسب أن يصرح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهي عن أصله كما وقع في نظير المورد من قوله تعالى : « إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ـ إلى أن قال ـ يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً » النور : ـ ١٧.