مِن هؤلاء المشَّائين ـ لقد كان كلُّ واحد منهم عدَّاءً وجوَّاباً ـ ابتداءً مِن النبي الجليل ، الذي لم يترك حَبَّة رمل مِن أرض الجزيرة إلاَّ ونشَّفها بخطواته الثقيلة ، وغمرها بفيض مِن عقله وروحه وحنانه ، فإذا هي تَؤوب مِن اعتكافها الطويل ، لتنال خَطَّاً جديداً بين يدي مَن راح يبنيها بناءً جديداً بإنسان سويٍّ.
أمَّا العبقريُّ الآخر الذي كانت خُطواته أوسع مِن الدروب ، وراحتاه أندى مِن كلِّ دُيمة مَرَّت في سماء ، فانَّه ما ترك خلفه خَطَّاً مِن خُطوط القوافل ، إلاَّ وزرع نفسه فيه : نظافة ، وعدالة ، وتُقى ، وسموَّاً ، مِمَّا جعل مُجتمعات الأرض تُفتِّش عن حقيقة وجودها الحضاري النبيل ، ولا تجده إلاَّ في الإنسان الذي يبنيه حِزام الإمام عليٍّ (ع).
أمَّا تلك التي نبتت بين ذراعي أبيها ، كأنَّها أعزُّ مِن شجرة الدُّرِّ ، فيكفيها أنَّها مشت أقصر طريق مِن بيتها الذي قُلِعت مِن باحته شجرة الأراك ، إلى باحة المسجد الذي كان يُصلِّي فيه خليفة المسلمين ؛ لتُعلمه أنَّ العدالة الممهورة بجِنان أبيها محمَّد ، والمسبوكة مِن مَعدن زوجها عليٍّ ، هي التي تُرزِم الأُمَّة وتجعلها قدوة بين الأُمَم ، إنَّ الطريق القصير الذي مشته فاطمة الزهراء ، لا يزال حتَّى الآن يمتدُّ عِبَر الأجيال ، تخفق فيه ثورة نادرة المثال ، تُعلِّم البنَّائين كيف يُعالجون أساس الصرح الذي يليق لسُكنى الإنسان.
هؤلاء هُمْ ثلاثة علَّموا الإمام الحسن كيف يمشي فوق الدروب ، ولقد مشى بروحه ، وعقله ، وإيمانه ، وكان جليلاً وهو يمشي ، وكان حكيماً وهو يمشي ، وكان قُطباً مِن مرونة وهو يمشي ، ولا يزال حتَّى الآن يمشي مشية الرِّئبال المُختال ـ إنَّه الغيور على أُمَّة سُحبت مِن تحت الرمال المحرورة ، لتُثبت وجودها تحت الظلال ـ إنَّه لا يزال ولن يَنْيَ يُعلِّمها أنَّ الوحدة النظيفة ، المؤمنة ، والمُدركة هي التي ـ وحدها ـ تبني المُجتمع بالإنسان العظيم ، وأنَّ الأحقاد ليست عقلاً ، وأنَّ التسابق إلى مراكز الحُكم والثروة ليس قوَّةً ولا غِنىً ، ولا أيَّ تحقيق يدوم ، وأنَّ الحُكم هو خدمة مُتفانية ، وصدق في المعرفة والضمير ، وأنَّ كلَّ ما خطَّه جَدُّه الذي جمع الأُمَّة مِن شِتاتها إلى واحد ، هو الصحيح في أداة الجمع والتوحيد ، وهي التي جمعت ،