وهي التي حقَّقت ، وهي التي لا يقدر ـ هو الإمام الحسن ـ إلاَّ أنْ يُضحِّي مِن أجل تثبيتها أداة جمع لا أداة تفرقة ، وكان التنازل عن الحُكم ، والابتعاد عن إراقة الدم ، إحياءً لقدوةٍ لا تزال حتَّى الآن تُقدِّم لكلِّ مَن يُحاول الوصول إلى كرسيٍّ مغروز القوائم في بُرَك الدم ، على حساب مُجتمع ينهدُّ إلى دَركٍ مِن الذِّلِّ والضعف والهوان.
تلك هي الخُطوط العريضة التي مشاها هؤلاء العظام ، فهل يكون الخَطُّ الذي مشاه الحسين مِن مَكَّة إلى كربلاء هو مِن ذات الطول ، وذات الوزن ، وذات الدلال؟
ولكنَّ السير الذي كان يبدو وكأنَّه بلا رحل ولا نعل ، ولا رمح مصقول السنان ، كيف له أنْ يطيب عِرقه وحفاؤه ، ويذكو نزفه وسخاؤه؟ أم أنَّه غِمْد خَسر السيف ، وخَطو نَتَفَ النَّعل ، جَعبة ضيَّعت النبل ، وفرس قفز السرج مِن حِزامها ، فإذا بالمعركة المشدودة بالصهيل ، كأنَّها كهف في وادٍ مهجور ، ما جَنَّ إلاَّ بالصدى وهَمْهَمة الصدى ، وإذا بالعزم كأنَّه انتحار لا يتخفَّى إلاَّ تحت أقدامٍ حافية ، تجوس النَّخاريب لتصبغها بالورم والدم!.
إنَّها المأساة ـ على ما يبدو ـ ولكنَّها ليست هي التي هزَّتني وحرَّكت في نفسي كوامن ما طالها أحد مِثلما طالتها سيرة الحسين ، ليست المأساة هي التي انتهت بمقتل الحسين وأهل بيته ، وليست هي التي انتهت بقطع رأسه وحمله هديَّة إلى المَريد الجديد يزيد!!! صحيح أنَّها همجيَّة ينفر مِن تقبُّلها تحصُّل مُطلق إنسان ـ وأنَّها تجديف يُجرِّد كلَّ مُجتمع تَحصَل فيه مِن كلِّ قيمه الحضاريَّة ـ الإنسانيَّة ـ المُجتمعيَّة ، وتُصنِّفه دون الدرك الحيواني المُتوحِّش ، ولا تغسله مِن زَنِخها الكريه إلاَّ أجيال أُخرى ، تردُّه إلى إعادة اعتبار نفسه إنساناً لا يجوز له أبداً أنْ يُمثَّل حتَّى بذئبٍ جاء يفترس نعجة مُطمئنَّة في حظيرة.
قلت : ليست المأساة تلك هي التي هزَّتني ، وإنْ تكن قد قهرتني وقصفتني إلى ذِلٍّ لا يُمرِّغني به إلاَّ إنسان كافر في مُجتمعي ، إنَّما المأساة في أنْ نكتب الكلمة ولا نعرف كيف نقرأها.