البليدين في معرض الفَهم ، ويزيد بالذات كان على رأسهم في حقيقة الحُكم وحقيقة التمثيل ، كان في ثقل المُعاناة المُلقية أوزارها على نفسيَّة الحسين.
كان الحسين في تمام الاقتناع أنَّه المغلوب على أمره ، مَهْما يُحاول مِن حَشد قوى يُنازل بها يزيد. منذ زمن طويل والساحات الشعبيَّة العريضة مُموَّهة عن خطوطها الصريحة ، ولكنَّه توصَّل اليوم إلى أبهى ما تتوصَّل إليه المعرفة ، وأعمق ما يُدركه الوجدان ، وأثبت ما يتوصَّل إلى تركيزه واقع علم الاجتماع ، هو أنَّ مُجتمع الإنسان لا تنفكُّ تشدُّ به إلى درك غرائز منوَّعة الأشكال والألوان ، في حين يُقيِّض له الله بعض أفراد ينبرون منه ، وهُمْ مُميَّزون بشُّعلات دافقة مِن الفِكر والروح ، يشدُّون حِقْويه للارتفاع إلى مُستوى آخر ، ينتصر به في مجال تحقيق إنسانيَّته المُفتِّشة ـ أبداً ـ عن مَثل تتدرَّج بها في حقول الارتقاء ، مِن هؤلاء الأفراد المُفرزين مِن خصائص مُجتمع الإنسان المُشتاق ـ أبداً ـ إلى اكتشاف ذاته في حنينه المزروع فيه إلى الأسمى والأنقى والأبهى ، هُمْ العلماء والمُفكِّرون ، والفلاسفة والمُصلحون ، والرُّسل والأنبياء الكشَّافون عن عوالم الروح ، وكلُّهم درجات درجات في المُجتمع الإنسانيِّ ، المزروع في أُمَم مُنتشرة على سطح الأرض. إنَّهم هُمْ الذين يتضافرون في التقديم المُثمر ، الذي يتخمَّر به كلُّ مُجتمع على قدر طاقته مِن الأخذ المُستمرِّ ، وكلُّ ذلك في عمليَّة دائمة الصراع ، لا يتأخَّر عنها إلاَّ المُجتمع الذي ينوخ عليه الفتور ، أو الكَسل ، أو المَلل ، ليكون عِقابه التردِّي ، والتنكُّب والانحطاط ، إلى أنْ يعود إلى غَرْفه الأصيل مِن المَعْن التي هي في وجود تُراثه الإنساني ، الذي تحتفظ له به الحياة. أمَّا المُجتمع الحيُّ الدؤوب ، فهو لا يتعب مِن الغَرف ، لا بلْ إنَّ المُتحوِّل ـ بحَدِّ ذاته ـ إلى مَعين مَلآن ، تَغرف منه المُجتمعات الأُخرى ، ليكون قدوة ومثالاً لها في العَطاء الإنساني الكريم ، الذي هو ذخر السماء في إنسان الأرض.
ليت شعري! راح يقول الحسين في ذاته ـ وهو في مِثل هذه الذروة مِن التفكير المُتأنِّي ـ : ألم يحُلم جَدِّي الكريم الواسع الخيال ، والبعيد الأُفق خَلف كلِّ منال؟ سأجعل منك أكرم وأعزَّ أُمَّة على وجه الأرض ... وستكونون الأُمَّة التي أُفاخر بها كلَّ الأُمَم؟ ويتمادى الحسين في التصعيد : لقد ملأ جَدِّي الخزائن التي ستغرف منها