لقد أُفعم الجوُّ كلُّه في باحة المسجد ، بنبرات صوتها التي لم تتمكَّن مِن تخليصها مِن الضعف والخفوت ... أمَّا الحسين ، فإنَّه راح يلتصق بها حتَّى لكأنَّه أصبح وتراً مشدوداً بعودها وهو يقول : طِبْت طِبْت يا أُمَّاه! لو تقدرين أنْ تجعلي صوتك عالياً كالهدير فيه!!! كمْ أُحبُّ الآن أنْ يسمعه أولئك الذين هُمْ نيام خلف جُدران هذا المسجد ، ارفعي صوتك أكثر وأكثر ـ يا أُمِّي ـ علَّهم أيضاً ، أولئك الذين هناك ، يسمعون.
أمَّا الخليفة الذي بدا كأنَّه المُنهار ، فإنَّه اقترب من المرأة ، وضمَّ الحسين إلى صدره وهو يُتمتم : كمْ كان النبي يُحبُّك يا بن علي ، لقد رأيته مَرَّة يُعرِّيك ويزرع في جسمك القُبَل.
والتفت إليه الحسين بعينين فيهما طفولة عمرها أقلُّ مِن تِسع سنين ، وفيهما بريق أدعج أحمر ، كأنَّه مِن زفرة شمس.
ـ ٥ ـ
لقد شاهد الحسين أُمَّه كيف كانت تَنْعس نُعاساً باسماً ، وهي تتأوَّد بفرح كأنَّه مُنتهى الغِبطة بين ذراعي الموت! لقد كان يفرك أصابع كفيِّها الباردة ، وهو جاث بجنب فراشها الممدود فوق الحصير ، كانت أسماء بنت عميس ، لطيفة كالشعاع ، وهي تُرطِّب شفتيها بمنديل مُبلَّل بماء الزهر ، حتَّى تُخفِّف عنهما نشفة مَصَّت منها بهجة القرمز. أمّا أبوه عليٌّ ، فكان كأنَّه طود مسحوق القِمَّة ، يزرع صحن الدار بخطوات تئنُّ مِن فَرط الوقار ، هنالك الحسن وحده بقي في الزاوية راكعاً يُصلِّي ، ثمَّ لا يعتم أنْ يتلَمْلَم على رؤوس أصابعه ، ويتقدَّم حتَّى يرى إذا يتنفَّس الأمل وتعود الحياة إلى ثغر أُمِّه فيبتسم!!
وفتحت فاطمة عينين غارقتين بما يُشبه النُّعاس ، ولكنَّه أعمق مِمَّا يُسمَّى بمرمى النظر ، إنَّهما مِن مدى آخر ، فيه شفافيَّة مِن فضاء ، وقرار مِن رؤى ، وسِمات مِن