فرح وطمأنينة ، كأنَّها كلَّها مِن جَنَّة موصوفة ، لا تغتبط بمثلها إلاَّ الذات المؤمنة بفيض الحَقِّ ، وفرح الثواب ، وعدل القضاء.
لقد جالت بعينيها هاتين ، في سقف البيت ، ومسحت بهما كلَّ حيطانه ، ووزَّعتهما على كلِّ المُتنفسين حولها ، وهُمْ بالحُزن والأسى غارقون ، لقد حطَّت بهما على رفيقها في العُمر ، وأبي ريحانتيها وريحانتي أبيها ، فهبط عليٌّ إلى الأرض بين يديها ، يشكرها على رهافة الرَّمق ، وحطَّت بهما على الحسن فسحبتاه مِن عالَم الحُلم إلى عالم أبعد ، ولكنَّه هبط أيضاً على رجليها يُكفكفهما وهو ينشج : ستكون لك العافية يا أُمِّي مع صباح الغَد ...
وحطَّت بهما على الحسين ، فتململ وانجبل جُبَّلة أُخرى وهو يُكفكفها بعينيه الفائضتين بالدم ، أمَّا هي فإنَّها شعرت بيقظة هبطت عليها مِن الزوايا الأربع ، وهي مسحوبة مِن السماوات السبع ، فارتعش تحت وطأتها جسمها بكلِّ أوصاله ، ومالت برأسها صوب أسماء بنت عميس ، وفاضت على شفتيها بسمة مفتونة ، وما عرفت نعومتها شَفتان مِن شِفاه الناس ، وراحت كأنَّها تُثغثِغ : لقد رطَّبت شفتيَّ يا أسماء ... فشكراً لك ... ثمَّ استطردت بثَغْثَغتها : أو تدرون بين يدي مَن أنا الآن؟؟؟ ما أطيبك يا أبي تستعجلني إليك!!!
ما كان الحسين يسمع شفتي أُمَّه تتهلَّلان ، حتَّى رآى رأسها يهبط على وسادتها كما يهبط الجِفن النَّهلان على العين النَّهلى لتنام.
لم يصبر دقيقتين ـ ها هو في المسجد يُفتِّش عن أُمِّه في حِضن جَدِّه ـ سيجد فيما بعد أنَّ كلا الاثنين ، مع أبيه وأخيه ، وحتَّى أسماء بنت عُميس ـ ولو أنَّها الآن زوجة للخليفة أبي بكر ـ يَحيون فيه ويحيا فيهم ، إنَّها مشيئة جَدِّه ، وحِكمته في الوصيَّة ـ يا للرسالة! تجعله حِضناً لجميع الذين حضنوه ـ ويا للأُمَّة! لا تموت إلاَّ لتحيا في جوهر الرسالة.